لم يتردد عدد من التجار المغاربة في قلب ظهر المجن للمخرن، وسارعوا إلى الحصول على حماية دولة أوربية والدخول في شراكات مع مواطنيها قصد تحقيق مزيد من الأرباح وضمان حمايتها.
تتفق أغلب الدراسات التي همت موضوع التجار المغاربة خلال فترة ما قبل الاستعمار، على ثلاثة معيقات أساسية، حالت دون تطورهم، ونمو تجارتهم بالشكل الذي يسمح بظهور بورجوازية مغربية فاعلة ومؤثرة اقتصاديا وسياسيا. وتتمثل هذه المثبطات في انعدام البنية التحتية المساعدة على نقل السلع والبضائع بين الأسواق والمراسي بالسرعة المطلوبة، وضعف السوق الداخلية ومحدوديتها، والأهم علاقة المال بالسياسة، وما عاناه هؤلاء التجار من سيف التتريك والمصادرة الذي كان مسلطا على رقابهم. وجوابا على هذا الواقع، لجأ عدد من هؤلاء التجار إلى ثلاثة أساليب للحفاظ على ثرواتهم؛ تجلت في الاكتناز عوض الاستثمار، والنزوع نحو المحافظة وعدم الجرأة على المغامرة واقتحام مجالات جديدة، اللهم ما كان من شراء للعقارات، أما الأسلوب الثالث، والذي كانت له تداعيات وأبعاد أخطر، فتمثل في الاحتماء بالأجنبي حتى لا تطال يد المخزن أموالهم.
تعمق هذا الاتجاه الأخير بشكل كبير بعد المعاهدة المغربية البريطانية سنة 1856، التي كبلت يد المخزن في تدبير اقتصاد البلاد. إذ كان بيت المال يعتمد بالأساس على الموارد الجبائية والجمركية، وكذا على نظام الاحتكارات السلطانية في مجال التجارة، التي أتاحت للمخزن موردا ماليا مهما عمل على تدبيره بواسطة عقود (Contrats) تمنح لتجار لبيع منتوج معين مقابل قدر من المال يدفعونه لخزينة الدولة. غير أن هذه المعاهدة التي أرغمت المغرب العتيق على الولوج القسري لنظام اقتصادي عصري، لم يكن مهيئا له، لم تعمل على حرمان المخزن من قسط مهم من مداخيله الجمركية فقط، بل من جزء من «نخبته الاقتصادية» التي كانت مستظلة بمظلة السلطان فانتقلت إلى مظلة الأجانب، عبر آلية الحماية القنصلية. ومع توقيع معاهدة الحماية سنة 1912، اختلطت الأوراق وتضاربت المصالح، ولم يظهر هؤلاء التجار المحميون على قلب رجل واحد، بل بقدر ما تفرقت بهم السبل في اختيار مشاريع الاستثمار، اختلفت أيضا قناعاتهم وولاءاتهم السياسية، قبل أن يدفعهم حيف مقاولة الحماية إلى الانخراط، إلى جانب أثرياء آخرين غير محميين، في مشروع نسفها من الأساس بالانخراط في العمل الوطني، في زمن ظهر فيه صنف من التجار تداخلت مصالحه مع مصالح هذه المقاولة ولم يتحمس لبرنامج هدمها.
برغماتية التموقع مع الأقوى
رغم أن نظام الحماية القنصلية لم يكن بالشيء الجديد الطارئ على مغرب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، غير أن المعاهدات، غير المتكافئة، التي أبرمها المغرب مع كل من بريطانيا سنة 1856، وإسبانيا عام 1861، وفرنسا سنة 1863 رسخت وعمقت هذا النظام، الذي زعزع الأمن وهدد السيادة وأضر بالاقتصاد، وهو ما جرى تكريسه خلال مؤتمر مدريد في صيف سنة 1880. وقد تجلت خطورة الحماية القنصلية أكثر حين اصطادت في شباكها ما يمكن نعته بـ«الحيتان الكبيرة» من التجار، وخاصة الموسومين بتجار السلطان، الذي لم يترددوا في قلب ظهر المجن للمخزن، الذي وفر لهم في السابق الحماية والامتيازات و«الكونطرادات» بل والأموال أحيانا لتنمية تجارتهم، وسارعوا، بمجرد الحصول على حماية دولة أجنبية ما، إلى الدخول في شراكات جديدة مع حماتهم الجدد، والاصطفاف في صف الطرف الأقوى، ولو على حساب مصالح بلدهم. غير أنه من المفيد الانتباه أيضا إلى أن التجار المغاربة عملوا، من خلال التحصن بالحماية القنصلية، على تفادي مصادرة المخزن لممتلكاتهم التي كانت تعرقل، بل وتنسف عملية التراكم، وتعيق التحول إلى قوة اقتصادية فاعلة ومؤثرة في الاقتصاد كما في السياسة.
الطيب بياض
تتمة المقال تجدونها في العدد 17 من مجلتكم «زمان»