تعيش الولايات المتحدة الأمريكية حالة من التماهي في شخص رئيسها الجديد/ القديم دونالد ترامب، وروسيا الاتحادية في شخص رئيسها، خريج مدرسة “كاجيبي” (KGB)، فلاديمير بوتين .هذه العلاقة الملتبسة، التي جعلت الدولة التي تعتبر نفسها الأقوى في العالم، والتي تريد المحافظة على مكانتها بكل الوسائل، حتى العسكرية منها، تطلب ودَّ دولةٍ تعتبر نفسها إحدى أقوى الدول النووية في العالم، والتي عانت من خيانة الغرب لها ومحاولة تقزيمها، تجعلنا نتساءل عن هذا الحب المفاجئ. كيف يمكن لأمريكا أن تضحي بعلاقتها مع أوروبا، التابعِ الخنوعِ والخدومِ، الذي لا يسأل ولا يَمَلُّ من تقديم الخدمات، ولو مجانًا للسيد الأمريكي، من أجل علاقة لا نعرف أسبابها ولا نتوقع نتائجها؟
من خلال التصريحات، نفهم أن أمريكا سلَّمت أوكرانيا لروسيا، وفتحت ثغرة كبيرة في شرق أوروبا، تسمح لبوتين، إن هو أراد، بأن يحتل باريس أو لندن أو روما، وحتى مدريد .تعيش أوروبا اليوم حالةً من الهلع والمرارة والإحساس بالخيانة. النقاشات الدائرة على منصات التلفزيونات الأوروبية كلها بكاءٌ ونحيب، وكل أولئك الذين كانوا يتحدثون بحماسة عن المصير الذي ستلقاه روسيا بعد هزيمة بوتين، تراجعوا إلى الخلف، وتقدَّم مردِّدو خطابات النُّدْبة. وكلما حاول هؤلاء المحللون تفسير كلام ترامب لصالح أوروبا وأوكرانيا، خرج عليهم هذا الأخير مؤكِّدًا كلامه، ومضيفًا له بعض التفاصيل التي تعقد مهمتهم.
لا يهمنا أمر أوروبا، لأن العالم لا تسيره الصداقات ولا العواطف، ولا حسن النوايا وأعمال الخير. تفكر أمريكا اليوم في نفسها، لأنها أحسَّت أن رغبتها في السيطرة على العالم كله تستنفد قواها، وتترك للثعلب الصيني إمكانية مراقبة انهيارها على مهل وسقوطها من تلقاء نفسها. تبنَّت أمريكا، وسوف تتبنى منذ الآن، استراتيجية الانكفاء على نفسها وممارسة التجارة. وإذا اضطرت إلى استعمال القوة، فسوف تفعل ذلك في حدود ما ينفعها، وليس للدفاع عن صديق أو رفيق في الأيديولوجيا. إضافةً إلى أن كل السلاح الذي تمتلكه أمريكا (السلاح المصرَّح به) لم يعد يصلح لشيء في عالم اليوم. أمريكا في طريقها إلى التخلص من ترسانتها التقليدية، بإرسالها إلى أوروبا، أو إلى إسرائيل لإبادة الفلسطينيين، أو إلى دول تابعةٍ نُطلق عليها اسم “نامية“. في عصر الذكاء الاصطناعي والأسلحة الدقيقة والخفيفة زهيدة الثمن، لم يعد للسلاح التقليدي الأمريكي دور كبير. هناك من يعتقد أنه لو اندلعت حرب في شرق المحيط الهادئ بين الصين والولايات المتحدة، فسوف تدوم هذه الحرب عشر دقائق فقط؛ 10 دقائق.
من يسير أمريكا اليوم تجارٌ بالدرجة الأولى .وتجار أمريكا الكبار وجدوا أنفسهم في مواجهة تاجر كبير شرس، يكتسح العالم بهدوء، دون أن يطلق رصاصة واحدة؛ إنه الصين الشعبية. في ولايته الأولى، كان دونالد ترامب يصرح بأن العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية هو الصين. وكان هو وفريقه يشيران صراحةً إلى الحزب الشيوعي الصيني، أي إلى النظام وليس إلى الأشخاص أو الحكومات. كانوا وما يزالون يعرفون أن النظام الصيني في طريقه إلى أخذ مكانة أمريكا على الساحة الدولية. وكانوا وما يزالون يعرفون أيضًا أن الصين لا تشهر، حتى الآن، إلا سلاح التجارة والصناعة، وتتحاشى دخول أي صراع مسلح على المستوى العالمي. فكيف السبيل لمحاربتها؟ هل يمكن أن تدخل أمريكا مع الصين في صراع مسلح؟ كيف يمكن ذلك، وأين، ومتى؟ ذلك هو اللغز. كان فلاديمير بوتين عميلاً في جهاز المخابرات السوفييتي (KGB) من عام 1975 إلى عام 1991، حيث خدم بشكل أساس في ألمانيا الشرقية. غادر الخدمة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وأصبح، في عام 1998، رئيسًا لجهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، الذي يُعدُّ خليفة الـKGB، قبل أن يتولى رئاسة روسيا عام 2000. لكنه لم ينسَ خداع الغرب، وعلى وجه الخصوص خداع أمريكا. بل لم ينسَ إهانة أمريكا لبلده. الروس لم ينسوا الإهانة الكبيرة التي تعرضوا لها على يد الأمريكيين.
حكى لي صديق متزوج من روسية، كان جدُّها جنرالًا في الجيش الأحمر السوفييتي. لما زاره في بيته بعد 1990، كان الرجل يسكن في شقة من غرفتين. لم تكن هذه مشكلته. حدث ذات يوم أن خرج صديقي وزوجته يتجولان في موسكو، وفي سوق للخردة، عثرا على بذلة جنرال سوفييتي، فأرادا أن يفاجئا الجدَّ. عادا إلى البيت، ولبسها صديقي في الحمام، ثم انتصب بفخر أمام العسكري العجوز. ما حدث كان مؤلمًا؛ إذ انفجر الجنرال باكيًا ومتحسرًا على رمز الجيش الذي أصبح يُباع في الخردة.
هذه الإهانة شعر بها بوتين، وما يزال يشعر بها على الدوام، ولن تُمحى إلا بإلحاق إهانة بأولئك الذين أهانوه .بوتين سليل هذا الجيش وهذا الشعب الذي تجرَّع مرارة الهزيمة. ولنا في التاريخ عبرة؛ فهتلر نشأ من رماد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. ليس هناك حب خاص بين الروس والصينيين، ولكن هناك اتفاق مصالح ضد عدو غير مأمون الجانب. ما يحرك بوتين هو نزعة وطنية توسعية انتقامية، وما يحرك الفريق الذي يحكم البيت الأبيض اليوم هي النزعات ذاتها.
فإذا كان ترامب يعتقد، عن ذكاء أو بلاهة، أن بوتين سوف يبتعد عن الصين مقابل فتات غير ذي قيمة (أوكرانيا هنا)، فإنه مخطئ.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير