تقرر نقل المعرض الدولي للنشر والكتاب إلى الرباط بعد ما قضى ثلاثين عاما بالدار البيضاء وبعدما ارتبط اسمه بهذه المدينة .تقرر هكذا، دون استشارة الفاعلين في الميدان على ما يبدو. لا نريد أن نقول إن الوزارة الوصية هي التي أخذت القرار لأن التصريحات التي بدأت تطفو على السطح تُظهر أن هناك متدخلين آخرين، لا نعرف على أي سلطة يتوفرون، أصبحوا يتحدثون عن أنهم طرف في القرار .آخر هذ التصريحات صدرت عن رئيس جهة الرباط–سلا–القنيطرة الذي كان يتحدث للصحافة بصيغة نحن. بل ذهب إلى أبعد من هذا، وفق ما جاء في بعض الأخبار، عندما صرح قائلا بالدارجة “شَرَّحْ مَلَّحْ“ كما يقول المغاربة: «سيدنا كَيَبْغِي الرباط، وجبنا معرض الكتاب للرباط دفاعا عن الجهة».
الواضح أن الشخص يريد أن يقول لمن أراد سماع ذلك إن له يَدا طولى وإن هذه اليد استعملت للسطو على معرض الكتاب والنشر الذي ولد ونشأ وترعرع بالدار البيضاء، منذ تأسيس هذه التظاهرة التي رعاها الكتاب والناشرون والمبدعون، ودافعوا عنها ضد التطرف الفكري وجعلوا منها مكانا للنقاش والتفكير ومقارعة الحجة بالحجة. منذ نشأتها، تعاقبت الحكومات تلو الحكومات ولم تجرؤ أي منها على نقل المعرض لأن رئيس الجهة أراد أن يدافع عن جهته.
كنت أظن أن الملك ملك المغرب والمغاربة وأنه يحب جميع المدن بنفس القوة، لكن الرئيس المحترم صحح لي خطئي وجعلني أتساءل عن مكانة الدار البيضاء عند أهل الحل والعقد. ورجعت بي الذاكرة إلى دفاتري وكراساتي وكتبي التي اقتنيت بعضها من معرض الكتاب بالدار البيضاء. قرأت عند ليون الإفريقي (الحسن ابن الوزان) أن ما جلب المشاكل على الدار البيضاء وأهلها هو إحساسهم بالكرامة وعزة النفس ورغبتهم بالاستقلال بالرأي وإثبات الذات .لكن قلت مع نفسي إن العهد الجديد تأسس على المصالحة ونبذ أحقاد الماضي والنظر للمستقبل، وقد تكون زلة نقل معرض الكتاب خطأ ارتكبه مجموعة من الذين ليست لهم تجربة ولم يقرؤوا التاريخ جيدا …لكن للأسف حضرتني حادثة أخرى…
كنا سمعنا وقرأنا أن أحد المغاربة الأثرياء كان يستعد لبناء أعلى برج في إفريقيا بالمدينة الجديدة التي تجري أشغال تشييدها على أرضية مطار آنفا التاريخي .هل كان هذا الثري يشترك في بنائها مع مستثمر أجنبي أو عربي؟ لا أدري، المهم أن البرج والذي يشبه كثيرا أو قليلا أبراج دبي كان ينتظر منه أن يكون علامة مميزة لهذه المدينة، التي ينتظر أن تستقبل مستثمرين من أرجاء المعمور لتصبح بذلك قطبا ماليا إفريقيا مهما. ابتهجنا أمام التصاميم المعمارية للبرج، وبقينا نحلم ونمني النفس برؤيته وهو يخرج من الأرض لينطلق إلى عنان السماء .إلا أننا فوجئنا بمنظمة اليونسكو وهي تدخل في جدال مع الدولة المغربية حول تشييد نفس البرج على ضفاف نهر أبي رقراق. قلق اليونسكو كان نابعا من أن البرج ما–بعد حداثي سوف يحجب رؤية البرج الأجمل الموجود بجنب ضريح محمد الخامس والذي يسمى صومعة حسان. لا ندري كيف حل المغرب مشكلته مع اليونسكو، لكن البرج اليوم آخذ في السمو والسيطرة على أجواء الرباط .في مركز مالي بمدينة آنفا، كان لهذا البرج معنى، لكن وجوده على ضفاف أبي رقراق يبدو لي أنه تزييني (Décoratif) فقط. لماذا تم نقله إلى الرباط؟ أتمنى أن لا يخرج لي رئيس مؤسسة حكومية أخرى ليبرر لي هذا الفعل.
وفي توجسي الذي لا ينتهي، أو قل أنني أصبحت أومن بنظرية المؤامرة، صرت أبحث عن ما يسند أرائي. فتذكرت حادثة تسجيل مدينة الدار البيضاء كتراث عالمي لدى اليونيسكو .في سنة 2016 وبتضافر جهود وزارة الثقافة وجمعية ذاكرة الدار البيضاء (Casa mémoire) ومؤسسة الدار البيضاء للتراث(Casa patrimoine) ، تم تهيئ ملف متكامل لطلب تسجيل المدينة كتراث عالمي. إلا أنه و في اليوم الذي تم فيه إيداع الملف عمدت وزرارة الثقافة بشكل غير مفهوم تماما إلى سحبه. تبادلت الجمعية ومديرية التراث بوزارة الثقافة التهم لكن نحن جمهور القراء والمهتمين لم نتوصل بجواب لحد الآن. قالت وزارة الثقافة إن الملف سحب لأنه كان غير مكتمل وتوجست من أن يرفض ويضر ذلك بسمعة المصالح الثقافية المغربية، لكن أعضاء الجمعية أو على الأقل بعضهم كان يؤكد أن الجميع كان يتفق على أن الملف هيئ بطريقة احترافية .وحتى لو كان الأمر كما ادعت مصالح الوزارة، فإنه كان من اللازم انتظار مروره أمام التقويم الأولي لمعرفة ما الذي ينقصه بالفعل تؤكد مصادر الجمعية.
بين هذا وذاك، ضاعت الحقيقة لكن هناك، ربما الأكثر تشاؤما، من يقول إن للأمر علاقة بالمضاربات العقارية. ذلك أن الدار البيضاء وحسب رأي نفس المتشائم، تسيل لعاب المضاربين العقاريين الذين لا يهمهم التراث في شيء، وإنما ينظرون إلى آلاف الأمتار المربعة الصالحة للبناء التي يمكن اكتسابها، إن هم استطاعوا إزاحة سلطة اليونيسكو على المباني القديمة وعاثوا هدما في الآثار التراثية .فهل فعلا كانت هناك أيادي استعملت وزارة الثقافة أو أشخاصا من بعض مصالحها لعرقلة حصول الدار البيضاء على صفة تراث عالمي؟ وأين دور السلطة والدولة؟ أو هناك تواطؤ على هذه المدينة؟
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير