في 11 مارس ،2004 تعرضت إسبانيا لعمل إرهابي فظيع، في محطة القطار بمدريد، أودى بأكثر من مائة وخمسين شخصا، وكان المغرب يعيش حينها فاجعة زلزال ضرب الحسيمة، ولم يمنع ذلك المملكة أن يكون أول دولة عبرت عن مواساتها وتضامنها مع إسبانيا، وقدمت كل جهودها في التصدي للإرهاب الذي ضربها .ولم تمض شهور معدودات حتى حل رئيس الحكومة ساباترو في الذكرى الأولى للعمل الإرهابي الذي ضرب الدار البيضاء في 16 ماي، وحضر تدشين جلالة الملك للوحة تذكارية لضحايا البيت الإسباني.
لا يمكن أن تُغفل الدلالة الرمزية لهذين الحدثين اللذين يعبران عن الطبيعة الاستراتيجية لعلاقات المغرب مع إسبانيا، من خلال إشارات رمزية وإجراءات عملية، وفي ظرفية صعبة.
يعتبر المغرب جذوره إفريقية، وأفقه أوربيا، ومَعبر هذا الأفق هو إسبانيا. يكاد هذا الوعي أن يكون عقيدة، ليس لدى الدولة وحدها، بل حتى لدى القوى الحية، والتوجهات الفكرية التنويرية.
لكن هل نجد ذات التوجه عند إسبانيا؟
تظل إسبانيا مترددة فيما يخص الوحدة الترابية للمغرب المتعلقة بأقاليمه الجنوبية، وتعرف أكثر من غيرها أن منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب كانت تابعة في تدبيرها إلى المندوبية السامية بتطوان. وتعرف أكثر من غيرها أنها من صاغ مصطلح “الشعب الصحراوي“، وأنشأت حزبا في أفق استفتاء تسلخ فيه تلك المنطقة عن المغرب، وتعلم مآل تلك التجربة…
وإلى الآن لا يفهم موقف إسبانيا، الذي انتقل من حياد إيجابي إلى حياد سلبي، من شأنه استطالة أمد الصراع المفتعل الذي لا يخدم استقرار منقطة غرب حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا منطقة الساحل. ورغم التطورات التي عرفها الملف، ووعي أطراف عدة بطبيعة النزاع المفتعل وحقيقته، ما يزال موقف إسبانيا متلكأ ومترددا، وهو موقف لا يخدم مصالح المغرب الاستراتيجية.
في غمرة هذا الموقف المتخاذل، من طرف حليف استراتيجي، تستضيف إسبانيا زعيم العصابة الانفصالية. وتعرف إسبانيا التي اكتوت بلهيب حركات “إيتا“، وما تزال تشكو النزعات الانفصالية في كتالونيا والباسك، والمخاطر التي تشكلها الحركات الانفصالية على وحدتها وسلامتها وأمنها. ولم تتعامل إسبانيا مع رعاة الإرهاب والانفصال من داخلها بمنطق الاعتبارات الإنسانية، ولا قبلت أن تتعامل معها دول أخرى إلا باعتبارها مارقة. دعّم المغرب دوما وحدة إسبانيا وسلامتها وأمن مواطنيها، ولم يقبل قط عروض الاتجاهات الانفصالية الإسبانية، وما أكثرها.
رئيس جماعة “البوليساريو“ إبراهيم غالي، شخص يحمل سجلا من التعذيب والترهيب، ما يزال من ذاقوا من ويلاته أحياء، أو من ذوي الحقوق، فضلا عن جرائم أخلاقية، منها الاتجار بالأطفال والاغتصاب. فهل تجري الاعتبارات الإنسانية على مجرم؟ هل يعقل أن تستضيف دولة ما وتسبل رعايتها على ابن لادن، وأبو مصعب الزرقاوي، وكارولس لاعتبارات إنسانية؟
إسبانيا دولة لها السيادة، بكل تأكيد، لكن السيادة لا تعني عدم التنسيق أو الإخبار أو الاستشارة، مع جار، وفي ملف حساس، وتعتمد عليه فيما يمس أمنها من هجرة وتصدي للإرهاب، وأهم شريك اقتصادي.
تعرف إسبانيا فصول بينوشي، الذي كان رئيسا لدولة فعلية، ولكن سجله في انتهاك حقوق الإنسان، جعله منبوذا في المجتمع الدولي. فهل تقبل إسبانيا وفعاليتها بالمبادئ الدولية، تارة، وتتنكر لها تارة أخرى باسم الاعتبارات الإنسانية لمجرم حرب. هل تترك إسبانيا الآلية الحقوقية أن تتحرك في إسبانيا ضد مجرم؟ مصداقيتها في الميزان.
يتعين عدم وقوف إسبانيا أمام الآليات القانونية، التي تأخذ بها في متابعة أفعال مجرمة خارج ترابها، بغض النظر عن جنسية الفاعل، هذا فضلا عن أن كثيرا من المتضررين يوجدون في التراب الإسباني، أو هم يحملون الجنسية الإسبانية.
لا بد من الوضوح في تعامل مدريد مع المغرب باعتباره شريكا استراتيجيا، يشترك معها في التاريخ، ويريد أن يشترك معها في المستقبل. ولا بد من تفعيل الآليات القانونية والقضائية التي تتضمنها الترسانة القانونية الإسبانية، لمتابعة أفعال مُجرمة، إذ أن عدالة انتقائية ليست عدالة، فإسبانيا لم تتورع عن متابعة الضالعين في جرائم ضد حقوق الإنسان والإرهاب، ولا يمكنها في حالة غالي، أن تقف في منتصف الطريق.
الكرة في ملعب إسبانيا.
يوسف شميرو
مدير النشر