الآن وقد نفثنا ما بصدورنا من غضب عما أصابنا من ضيم جراء الإهانة التي تلقيناها من فرنسا إذ نعتنا واحد من مسؤوليها بالخليلة، ونطق لسان المقال عما يتستر عنه لسان الحال، أليس يجدر بنا أن نتساءل: وما ذا لو كان لنا نصيب في هذا الحكم الذي أجراه بعض من بني فرنسا علينا؟ فهل كان مسؤول ليتجرأ علينا لو لم يكن يعرف أوصال بلادنا ولم يقف على مدى «تعلق» مسؤولينا ببلادهم؟ أوَ لسنا نتصرف حقا كتابع، إن كان يؤذينا أن نستعمل كلمة خليلة المؤذية.
لقد أشارت الصحافة إلى بعض الصفقات التي أعطيت لوكالات توزيع الماء والكهرباء والتطهير، ولعل الأشخاص من جيلي يذكرون كيف طُرحت قضية الخوصصة عقب سقوط حائط برلين، وكيف ترأس الملك الراحل الحسن الثاني دورة أبريل للبرلمان سنة 1990 وتلا خطابا، هو الذي كان يرتجل دوما، ليؤكد أهمية الحدث، و ليسهب القول في فضائل الخوصصة، وكتب مستشاره رضا كديرة مقالا بجريدة لوماتان، يشمت في أولئك الذين كانوا يدفعون بالتأميم ودور الدولة، ثم فتحت الأبواب على مصراعيها للشركات الفرنسية، ومنها وكالات الماء والكهربا والتطهير، وحين طالب نائب برلماني اشتراكي من الدارالبيضاء بالدعوة إلى احترام المساطر، أقام وزير الداخلية آنذاك إدريس البصري عليه الدنيا ولم يقعدها، وهدد بإخراج «الملفات».
وكان ذلك القطر ليعم بعدها الغيث، فتتولى شركات فرنسية في كبريات المدن مرافق توزيع الكهرباء والماء و تقوم بالتطهير السائل والصلب، ومُنحت الأراضي الفلاحية الخصبة لشخصيات فرنسية نافذة، ومنها تلك التي حصّلت على قروض ضخمة من أبناك مغربية، لم تستثمرها في المشروع وإنما أخذتها جزءا وفاقا، وتبخرت في فرنسا، كدلورم Delorme. ولعل من كبرى الفضائح التي لم يتحدث عنها برلمان ولا صحافة، القيمة التي فُوتت بها شركة الملاحة البحرية، ولم يتحدث أحد عن أغنياء الخوصصة، أسوة بأغنياء الحرب، الذين تعلموا من ضربائهم في روسيا، ونقلوا تقنياتهم إلى المغرب، ووظفوا النقابات، وضمنوا تواطؤ النافذين، وهلم جرا.
ويذكر أبناء جيلي، أن هدية انتخاب شيراك في ماي 1995، وزيارته للمغرب في يوليوز، كأول بلد يزوره بصفته رئيسا لفرنسا، هي إعادة النظر في منظومتنا التربوية التي أشرف عليها خبراء فرنسيون بغطاء مغربي. ويعرف القاصي والداني كيف تتصرف Jet Set الباريسية في مراكش، وكيف يُحسَن وفادتها، ويُجزل لها العطاء، ويتم التستر عن فضائحها.
فهل يلام هؤلاء إن رأونا نتصرف كقطط وديعة، لا نطمع في شيء إلا في إرضاء علية باريس؟
وهؤلاء من جانبهم يعرفون كيف تعيش عليتنا «الموقرة» في رحاب باريس، وهم يبادلونها خدمة بخدمة، فيتسترون عن فضائحها، ويتغاضون عن زيغ فلذات أكبادهم، ونزوات حرائرهم، ويوكل إلى قسم خاص يحمل اسم القضايا المحفوظة تابع لولاية أمن باريس، معالجة قضايا دقيقة ومحرجة، قبل أن تصل إلى القضاء أو تبلغ الصحافة.
ثم ألا يحسن أن نسأل سؤالا مؤذيا، أليس منا من يتصرف مع «المغرب الشقيق»، بتعبير بزيز، كما لو أنه خليلة، يحبه حقا، ولكنه يحبه كما يحب المرء الخليلة، يحب جمالها وعطاءها، ويتخذ من الخليلات ما طاب له مثنى وثلاث ورباع، فإن تولى جمال الخليلة وعطاؤها تولى عنها؟ أليس منا مسؤولون في مواقع حساسة، يحملون جنسيات أجنبية، منهم أو كان منهم وزراء، ونواب وسفراء ودبلوماسيون، وهي لعمري لفرية، لم تُعرف لبلد سوانا. ولو فتح هذا الملف لرأينا من الأمر عجبا. كنا نتندر قبل عشرين سنة عن مسؤول في قطاع تقني، كان يحرص أن يترجم حرفيا من الفرنسية إلى العربية ما ينبغي أن يقوله أمام التلفزيون، فكان يقول«شبكة وطني»، وسمعنا قبل شهور، مسؤولا آخر، يشرح فضائل التعددية الثقافية التي كرّسها الدستور، فتكلم عن اللغة الحسنية، (كذا) وهو طبعا يعني الحسّانية، ولأنه قرأها بحروف لاتينية، لم يحسن النطق، وهي ليست لغة وإنما فرع من اللغة العربية.. فكيف ندافع عن مغربية الصحراء إن كنا ننظر إليها من بعيد، بتعبير طه حسين، ولا نعرف عنها إلا نتفا، ونتبجح بعدها إن سردنا مقطوعة أو رددنا لازمة. وليس العيب ألا يعرف هؤلاء العربية، أو الأمازيغية، ولا أن يلُمّوا بتاريخنا، ولكن العيب كل العيب، هو أن يفرضوا توجهاتهم، ويرون من جهلهم َميزة، ويجعلونه قوة، كما عند جورج أورويل، في عالم «الأخ الأكبر»، ويهزؤون بمقوماتنا، كما رأينا من أراد أن يفرض الدارجة لا حبا فيها، ولا حتى معرفة بها، ولكن نكاية باللغة العربية.
إن من المفترض أن يحب المرء بلده كحبه لأمه، لأنه مثلما يقول الفقهاء مستغرَق الذمة لها، لن يوفيَّها حقها مهما يفعل، يحبها بلا شرط، ولا يَلزمها أن تكون جميلة أو غنية أو سخية، وكما أن ليس للمرء إلا أم واحدة، فلا يسوغ أن يكون له ارتباط إلا ببلده. ليس له جواز سوى جواز بلده، وليس له ولاء إلا لبلده.
قديما قال مالك بن نبي رحمه لله إن الاستعمار لا يقوم إلا في بنية قابلة للاستعمار، ويمكن أن نقول ذات الشيء فيما نعيشه من وضع، إن الاستعمار الجديد لا يمكن أن ينهض إلا في بنية قابلة للاستعمار الجديد. ومن علامات هذا الوضع قلب القيم رأسا على عقب واستنسار البُغاث، أي الطير الهزيل الذي يتصرف كنسر، حينا يخلو له الجو.
هو ذا أصل الداء، وليست فرنسا.