هل يمكن للإنسانية أن تحلم باليوم الذي ستتوقف فيه الحروب وتعيش الأرض في طمأنينة وخشوع ويرعى الذئب مع الحمل كما تقول الحكمة العربية المعروفة. فكرة أن الذئب والحمل لا يمكن أن يعيشا في سلام تأتي من أن غريزة الافتراس عند الذئب تتجاوز كينونته. إن الذئب ككائن يتحدد بالافتراس. وإذا انتفت فيه هذه الخاصية فإنه سوف يفقد ذئبيته. فالذئب ذئب لأنه مفترس، وهو كذلك كجميع الحيوانات التي نَعْرِفُها ونحددها كما نُعَرِّفُهَا بما هي حيوانات مفترسة. وكما أنه لا يمكن للعقرب أن لا يلدغ تماما كما الثعبان لأن وجودهما مرتبط بتصريف سُمَّيْهِمَا في المطلق، فإن كل الكائنات التي تقتل من دون نية مبيتة وإنما انطلاقا من الغريزة تفعل ذلك تلقائيا ولا تتساءل عن النتيجة، فما يهمها هو وجودها وليس وجود الآخرين.
فالحيوان المفترس لا يخطط للقتل، بل يتصرف وفق ما سُطِّرَ له داخل حياته الطبيعية. فهو يدافع عن نفسه ويهجم لكي يأكل، خارج ذلك فهو لا يفترس ويقطع لكي يُخَزِّنَ، لا يقتل إلا إذا كان جائعا ولا يفترس كل الحيوانات، بل فقط تلك التي تربى على أكلها.
لكن على عكس كل الحيوانات، فإن الإنسان يأكل كل شيء ويفترس كل الكائنات. فهو يفترس الأسماك والحيوانات الأليفة والحيوانات المتوحشة، يأكل النباتات والأشجار، يأكل الأخضر واليابس، يفترس حيوانات النهر والبحر، يأكل الطيور والزواحف، يأتي على كل شيء في الحياة. إنه لاحم وعاشب في الوقت نفسه. ولعله أيضا أكثر الحيوانات هجوما على بني جلدته.
وبالنظر إلى التفسيرات التي تقدم هنا وهناك عن الحرب وأسبابها، تجد التبريرات الاقتصادية مكانا هاما فيها. فهل من الممكن الاستكانة لهذا التفسير والاكتفاء بهذا المنطق؟ فهل من الممكن تبعا لهذا أن نفهم حِنْقَ وحِقْدَ الجيوش، جماعات وفرادى، وهي تحتل المدن وتعبث بحياة الضعفاء من القوم؟ كيف نفسر تفاخر الجُنْدِ بتحطيم كل شيء والقتل المجاني كلما أتيحت لهم فرصة السيطرة على محيط ما؟ كيف نفسر العدوانية المجانية التي نشاهدها يوميا على شاشات العالم؟ كيف نفسر تَعَطُّشَ المتفرجين إلى هذه المشاهد حتى ولو كانوا يدينونها باستمرار؟ قد لا يتعلق الأمر بالحروب فقط، ولكن بشتى أنواع العنف الدموي الذي أصبح يصور اليوم بكل سهولة ليجوب أرجاء العالم بفضل وسائل التواصل الحديثة.
يبدو أن الإنسان لم ولن ينسى غريزته الحيوانية الافتراسية. الإنسان في الأصل حيوان مفترس.
يتطرق الأنثروبولوجي والمؤرخ الفرنسي من أصل يهودي، إيمانويل طود في كتابه الجديد (هزيمة الغرب)، إلى الهجوم الإسرائيلي على غزة ويقول إن الأمريكيين هم من كان وراء الهجوم المدمر الذي يجري حاليا بقطاع غزة. ويؤكد أنه لو أن الأمريكيين كانوا يبحثون عن السلام لكانوا ألزموا إسرائيل بعدم الدخول إلى القطاع. من الأكيد أن إيمانويل طود كغيره من المفكرين من أصل يهودي عبر العالم يهتمون بمصير إسرائيل، لذا فإنهم يرون في الحرب الدائرة الآن خطرا على الكيان. لكن ما يهم فيما قاله طود إن الأمريكيين تحركوا بغريزة الحرب. وكأن الحرب أصبحت لديهم ضرورة حيوية. فكلما سنحت لهم فرصة ولو ضئيلة للدخول في الحرب إلا واستغلوها. والأمثلة كثيرة في هذا الباب. حرب العراق، أفغانستان، أوكرانيا حتى ولو كانت بالوكالة، واليوم الشرق الأوسط حتى ولو كانت غزة هي البداية فقط. متى توقفت أمريكا عن الحرب منذ الحرب العالمية الأولى؟
من هنا تتجلى الصورة التي يتصرف بها زعيم القطيع في التجمعات الحيوانية والتي يكون الإنسان قد ورثها ولم تفلح الشرائع الأرضية ولا الديانات السماوية في اقتلاعها من لا وعيه .فكلما سنحت الفرصة لزعيم القطيع في أن يظهر سطوته وقسوته فإنه يبادر إلى المبالغة في إظهار قوته.
هل عرف العالم عبر التاريخ الطويل للإنسانية يوما واحدا بدون حرب؟ لا أعتقد. تبدو الحرب وكأنها ضرورية للإنسان .ذلك أن الإنسان يمتلك اندفاعات عدوانية ومدمرة متجذّرة في اللاوعي. وتتفاقم هذه الاندفاعات في حالات الضغط، والإحباط، أو التنافس، ويمكن أن تجد تعبيرًا لها في العنف الجماعي والحرب. ويبدو أن المشاركة في أعمال العنف الجماعي تسهم في ترميم الشعور بالهوية والسيطرة لدى الأفراد أو الجماعات التي تشعر بالتهديد أو عدم التقدير خصوصا لدى بعض القوميات الهشة التي اندثرت أصلا ولم تبق إلا في السرديات. يُمكن اعتبار العنف وسيلة لإعادة تأكيد القوة والشرعية الذاتية مقارنةً بعدو مُفترض. يتماهى الأفراد إذن مع الهويات الجماعية، والقوميات، والأيديولوجيات التي يعتقدون أنها تشكِّل هويتهم وقيمهم. ويصل الأمر إلى استعمال العنف بدون حدود عندما تتدخل الإيديولوجيا لتمنح الأفراد سردية تبريرية تصبح بمثابة اللحمة التي تجعلهم يتراصون كوحدة متكاملة حتى ولو كانت اتجاهاتهم ومصالحهم متضاربة وحتى ولو كانوا يتصرفون في بعض الأحيان ضد قناعاتهم ومشاعرهم. إنها الطبيعة الافتراسية عند البشر.
هل يمكن الاعتقاد أن الإنسان سوف يتخلى عن الحرب في يوم ما؟
لا أظن ذلك.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير