الجواب على السؤال الوارد في العنوان، أنْ نعم. للمغرب مؤهلات جمّة، من تراكم ثقافي، وانفتاح، وتقاليد سواء في رحاب الثقافة العتيقة أو الحديثة، رغم العثرات والتعثرات. وجود مؤهلات لا يعني بالضرورة كسب الرهان كي يصبح المغرب قطبا ثقافيا، إذ لا بد من ترجمة لما هو بالقوة إلى فعل. وبتعبير سار، لا بد من الاستثمار في “الصناعة الثقافية الثقيلة“، وعدم الاكتفاء بـ“الصناعة الثقافية الخفيفة“ التي تروم التسلية، من مهرجانات وسينما، ومتاحف .كل ذلك جميل، ولكنه لا يستطيع أن يرقى بنا كي نكون قطبا ثقافيا. و“الصناعة الثقافية الثقيلة“ تعتمد بالأساس على الارتقاء بالمنظومة التربوية، ومنها الجامعة لإنشاء مجتمع يُنتج المعرفة ويستهلك المعرفة كذلك، بل يُصدّرها.
والحقيقة هي أن المغرب، رغم أعطاب منظومته التربوية، يُصدّر المعرفة. فكثيرة هي الكفاءات المغربية التي تم استقطابها خارج المغرب .ولا عيب في ذلك، وكثير من الكفاءات التي يتم السطو على نتاجها، من دور نشر أجنبية محتالة، وهنا العيب كله.
ولن نستطيع أن نتغلب على بعض من أعطاب المنظومة التربوية من دون طرح مشكل اللغة في منظومتنا التربوية .وقد أحسنت كلية اللغة العربية التابعة لجامعة القاضي عياض أن نظمت ندوة دولية حول اللغات، في مستهل هذا الشهر، وما يعرض في دائرة التعدد اللغوي من “حروب“ ومناوشات، أو على الأصح لما يحمله مستعملو اللغات من حروب أو مناكفات. لا توجد لغة من غير مستعمليها. والتنوع غنى، ولكن شريطة حُسن تدبيره، فالتنوع لذاته ليس غنى ولا فقرا. يمكن أن يكون غنى إن أحسِن توظيفه، ويمكن أن يكون مصدرا للشقاق إن تُرك الحبل على الغارب أو من غير تدبير .ويلزم أن يكون التنوع وفق مبادئ جامعة، من مواطنة، وعدالة اجتماعية، وتوزيع عادل للثروات والرموز، وإلا تحول إلى صدْع.
نردد كثيرا غنى ثقافتنا، وهي كذلك، سواء تلك المتأتية من تاريخنا مما لم نُخرج ذخائره، أو لم نحسن صقلها، وتلك المتأتية من حاضرنا، وتلك التي يفرضها علينا موقعنا الجغرافي. ولكن هذا التنوع يظل في الغالب جزرا معزولة .لا يعرف الفرنكوفوني ما يجري في دائرة ما يموج في الثقافة العربية، ولا يستشعر الرغبة في ذلك، ولا يرى مستعمل اللغة العربية ما يطفح به مستعمل الأمازيغية، وينظر الأكاديمي إلى الثقافة الشعبية باستعلاء، ويراها كما قال واحد من كبار مثقفينا في نوع من الجناس بالفرنسية متحفا يثير الغثيان وآخر مَن أفتى بإماتة اللهجات.
ولا يمكن أن نمد الجسور بين الجزر الثقافية من غير امتلاك ناصية اللغات. وهو المدخل لكل إصلاح تربوي. واللغة أبعد من أن تكون مجرد أداة للتواصل، ولا يمكن أن نقبل من متعلمينا معرفة مزجاة من اللغات الأجنبية مما يزعمون معرفته. أحصيت بعضا من الأخطاء التي تفسد المعنى من بعض متعلمينا أو غيرهم، في الآونة الأخيرة، ومنها ترجمة أستاذ للفلسفة في بلد عربي بالعقل الشعبوي، والصواب العِلّة الشعبوية، أو ترجمة عنوان كتاب سرى “ “La Médiocratieبحكم التفاهة والصواب الضحالة، أو كتابة صحافي مرموق ترجمة لتعبير ماكس فيبر “ “Le Désenchantement du Monde بعالم لا غِناء فيه، والصواب لا سحر فيه، أو ترجمة “ “La Bêtiseبالبلاهة كما تردد في بعض من فلاسفتنا المرموقين ترجمة للجملة المأثورة لنيتشه “ “Philosopher c’est nuire à la bêtiseومقابل البلاهة بالفرنسية “La Niaiserie” وقد تكون كلمة غرارة أقرب إلى الكلمة المترجمة عن الفرنسية. والترجمة ليست هي مقابل كلمة من لغة إلى مقابلها في لغة أخرى، ولكنه مطابقة معنى بمعنى. والترجمة السيئة كما الغذاء السيء، تترتب عنه أدواء لا تظهر بادئ الأمر، ولا يقوم معها فكر، وهو الدرجة الأسمى للغة. ولا نهضة للأمم من غير فكر. ولذلك، لا أرى مندوحة من تعلم اللغات الأجنبية، لأن الترجمات السارية غير دقيقة. وينبغي أن نتعامل مع اللغات الأجنبية بمنطق البرغماتية بعيدا عن الأحكام المسبقة، أو الإيديولوجيا. أما اللغة الأمازيغية فينبغي أن نُقر مثلما كتب عارف بالموضوع السيد أحمد زاهد، قبل أيام، أنها تترنح، وهي قد انتقلت من وضع المهدد بالفناء، إلى وضع التحنيط …وينبغي تدارك الأمر، بعيدا عن اللغط، وأصحاب اللغط، في أناة، ومن غير ارتجال.
ما تزال جامعتنا تطفح بالحياة، رغم كل المثبطات، وما يزال بعض من أساتذتنا ماسكين بالجمرة، يرفعون راية البحث وطرح السؤال. والعيب هو ألا نحسن الاستثمار في هذا الرصيد الذي لا يحتاج لشيء عدا الاعتراف، وصدق المتنبي إذ يقول :
ولم أرَ في الناس عيبا // كعجز القادرين على التَّمامِ.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير