اجتاز التلاميذ والتلميذات مؤخرا، بمختلف الثانويات المغربية، امتحان الباكلوريا، جسر العبور الضروري نحو الدراسات العليا. واختلفت التقييمات حول الأداء قبل النتائج، أي أداء الممتحنات والممتحنين داخل الفصل على مستوى الانضباط والاعتماد على النفس وتلافي الغش. وتم الحديث عن آليات للمراقبة والزجر ضمانا لتكافؤ الفرص، بعدما صار الغش هاجسا مؤرقا في المدارس، مثلما يؤرق الشغب في الملاعب. يطرح السؤال ما الذي أوصلنا لهذا المستوى؟ كيف انهارت منظومة القيم وصار «النجاح» عبر آلية الغش مدعوما من طرف الأسرة ومناسبة للتباهي؟ وأي أفق يفتح أمام المجتازين لعتبة الباكلوريا؟
ترسخت صورة نمطية مبتذلة، مرتبطة بالتوجيه والأفاق المستقبلية للتلاميذ، مفادها أن التخصصات العلمية والتقنية حكر على النوابغ والمتفوقين، وأن أصحاب المعدلات المتوسطة ما عليهم إلا التوجه إلى الشعب الأدبية. هذا الفهم نتج عنه استبطان مغلوط للعلاقة مع المعرفة، رسخته بشكل كبير المناهج التعليمية المتعبة، سواء في المدرسة أو الجامعة. فماذا يعني خلو مقررات كليات العلوم من أي مادة مرتبطة بالعلوم الاجتماعية أو الإنسانية؟ يعني بكل بساطة أن تجد أطرا شابة متخرجة من كليات ومعاهد علمية وتقنية، لا تمنحها المقررات الدراسية غير وعي تقني، مرتبط بتخصصها الضيق، لا يسعفها في فهم مجتمعها وواقعها، لذلك لا غرابة أن تجد مهندسا أو إطارا تقنيا يفسر مختلف الظواهر وفق تحليل غير علمي، ومستعد للتحول إلى مشروع «جهادي». أليس من الأفيد، والبرنامج الاستعجالي يتحدث لغة التفتح والانفتاح، أن تبرمج مثلا مادة أساسية، لطلبة الكليات والمعاهد العلمية، خاصة بالعلوم الاجتماعية، تدرس فيها الفلسفة في الفصل الأول، وعلم الاجتماع في الفصل الثاني، وعلم النفس في الفصل الثالث، والتاريخ في الفصل الرابع، والآداب في الفصل الخامس. فينجز الطالب بحثه للتخرج في الفصل السادس، وقد تشرب معارف من حقول معرفية مختلفة تسعفه في حسن استثمار ملكاته المعرفية في تخصصه. وعلى المستوى الآخر ماذا أنتج تبخيس بضاعة التخصصات الأدبية؟ إذا ما استثنينا اللغات الأجنبية، يستبطن جزء كبير من الطلبة نوعا من عدم الثقة في التخصص، وفي فائدته، خاصة عندما يتم ربط التكوين بسوق الشغل. والنتيجة بحث عن الانتقال لا عن النجاح بمعناه الحامل لدلالة التفوق والتمكن، المفضي والمؤسس للتضلع في المستقبل. هذا المسعى المعبر عن تدبير للأزمة، وتصريف لليأس والعجز، يتم عادة بأساليب لا تمت للبحث العملي بصلة من قبيل تقنيةcopier/coller ، التي غالبا ما تتم دون مراجعة ما يتم نقله من الأنترنيت. هذا إن لم يصبح حل كل الأسئلة، وإنجاز مختلف العروض من اختصاص صاحب محل الأنترنيت «سيبير». يكفي تقديم السؤال أو الموضوع، لتتحول العملية المعرفية إلى مجرد اختزال تقني. والنتيجة تكسير لأفق انتظار مما هو مطلوب داخل الفصل أو المدرج، وخيبات وإحباطات مما يمكن أن يضطلع به هذا الشباب، كإسهام في تراكم منتج للبحث العلمي، أو كخلف يحمل المشعل في المستقبل.
يخلص الباحث الفرنسي دانييل ريفي، في بحثه عن المدرسة والاستعمار في المغرب، إلى القول: «لقد تأرجحت مدرسة الحماية الليوطية إذن بين المفارقة التاريخية، والمعاصرة والمستقبل. لذلك كان على النخبة، التي خلقتها تلك المدرسة أو ساعدتها على الاستمرار، أن تعيش تمزقا بين نموذجين مثاليين متباعدين: الإنسان المسلم المستقيم، والبورجوازي الكمبرادوري. ومن ثًَم يمكن فهم الدوار والقلق اللذين أصابا تلك النخبة، لأنه كان عليها أن تلعب دورين متناقضين أشد التناقض. لكن هذه المدرسة، رغم ما قيل عنها، لم تكن فشلا بالنسبة للاستعمار الفرنسي، فقد هيأت كما يجب النخبة البورجوازية الحضرية والقروية والعسكرية، وهي التي تفاوضت حول الاستقلال، وورثت تركة الحماية.
إن المؤرخ الأجنبي بالمغرب ليشعر بالارتياح المعنوي حين يعاين هذه الاستمرارية بين المغرب الاستعماري والمغرب المعاصر، والتي شكلت المدرسة الأوربية أداتها الفعالة. وإذا قام بتجربة الضيافة المغربية، يمكنه أن يتألم للانفصال الموجود بين الشعب والنخبة، ذلك الانفصال الذي ساهم فيه تأسيس تلك المدرسة خلال العشرينات».
لم يكن هذا التشخيص الذي قدمه دانييل ريفي للمدرسة المغربية زمن الاستعمار، خافيا على المؤرخ الكبير، وأول عميد لكلية الآداب بالرباط، الفقيد شارل أندري جوليان. فقد نبه في رسالته الشهيرة في فاتح نونبر 1960، إلى ثغرات المنظومة التعليمة، والتي لم تكن في حاجة إلى بلاغة لإخفاء ضعفها وقصورها، على حد تعبير دانييل ريفي. فجاء تنبيهه مبكرا في شكل صرخة تأمل الاستجابة، لتفادي نموذج تعليمي فاشل.
لكن حصل العكس، وكانت أحداث 23 مارس 1965 أول جرس إنذار في هذا الاتجاه، ثم توالت التقارير من جهات مختلفة لترسم صورة قاتمة عن واقعنا التعليمي.
نعتقد أن تأجيل معالجة هذا الملف، بعيدا عن المنطق الذي حكم وأنتج الخيارات السابقة، لن يجعلنا في أحسن الأحوال، بعيدين عن منطق «إبقاء الأمور على عوائدها حتى لا يتسع الخرق على الراقع»، المعبر عن خيار الترقيع، عوض نهج الإصلاح الحقيقي المبني على مركزية المعرفة المنتجة، المكرسة للخلق والإبداع والتميز، والمفجرة للطاقات الخلاقة للشباب في مختلف تخصصاتهم، دون شعور بالغبن أو الدونية أو انسداد الأفق.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير