من المسؤول عن الكوارث الطبيعية التي تهلك الحرث والنسل؟ سؤال غير ذي موضوع، خارج السياق تماما، لكن الظاهر أنه ما يزال يثير الفضول. فقبل أسابيع قليلة نشرت الصحف المغربية نبأ صدور قرار عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية يقضي بتوقيف خطيب أحد مساجد سلا، لأنه فسر توالي الهزات الأرضية شمال المملكة بكونه “عقابا” إلهيا ينزل بسكان المنطقة! جاء قرار العزل ليواجه ردود الفعل المستنكرة التي أثارها حديث هذا الفقيه، صاحب السلطة المعنوية الأكيدة على أذهان المصلين، لكن هذا الإجراء العقابي لا يحل المشكل.
إذ المشكلة في المرجع الذي استند عليه الخطيب وليس في النتيجة. يتعلق الأمر بمسلمة من مسلمات الخطاب الإسلامي، تفسر ما يحل بالأرض والإنسان من كوارث ومصائب تفسيرا جاهزا لا يخرج عن احتمالين. إما أنها عقاب إلهي ودليل بالتالي على أن الضحايا مذنبون، أو ابتلاء لهم يختبر قوة إيمانهم وصبرهم على الشدائد.
من المؤكد أن الذين يستندون على هذا المرجع لتفسير ما يحل بالبشر من كوارث إنما يفعلون ذلك بحسن نية، إذ هكذا فهم كلام لله قبل أربعة عشر قرنا، والسنة تلح وتؤكد على صلاحيتها لكل زمان، وتكره السؤال. “الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة”! كما جاء في التخريجة الشهيرة التي اهتدى لها الإمام مالك جوابا على سؤال طرح عليه حول تفسير استواء الله فوق العرش بعدما خلق الكون في ستة أيام.
لماذا الخوف من الأسئلة؟ لأسباب سياسة مؤكدة ترتبط بظروف الصراعات التي كان يعيشها المسلمون حول السلطة، فقد كان الارتباط وثيقا بين وحدة السلطة ووحدة العقيدة، وكل طالب ملك يحرص على توحيد الناس حول شخصه قدر حرصه على توحيدهم حول كلمة واحدة، وهذه الكلمة ليست سوى تأويل بشري للنصوص الدينية. لعل أوضح مثال على ذلك أن الخلاف العقائدي الجوهري بين المسلمين اليوم، سنة وشيعة، لم ينشأ سوى عن تأويلين بشريين مختلفين للدين، في نطاق صراع على السلطة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان… بطبيعة الحال يرفض ورثة التقليد، من الجانبين، وضع المسألة في إطارها السياسي إذ من شأن ذلك أن يهدم أساس شرعية الرأي الذي اهتدى إليه كل تيار، فتصبح الإجابات الأصلية التي وجدت أول الأمر نافذة إلى الأبد.
يقابل هذه المنهجية الأصولية الجامدة طريق آخر لإدراك الواقع، يضع التقاليد الموروثة في سياقها التاريخي الخاص، يفهمها في نطاقه ولا يحملها أكثر مما تحتمل، إذ الزمن متغير باستمرار وكل يوم يحمل اكتشافات جديدة، فلا المنطق ولا المصلحة تقتضيان إنكار الواقع المتجدد باستمرار وفاء لتقاليد موروثة، ليست في النهاية سوى تأويلات بشرية للدين. من البديهي إذن أن تعرض هذه المنهجية العلمانية عما اكتشفه الأجداد من مجاهل الطبيعة وأسرارها، إذ أضحى متجاوزا بفضل تقدم العلم المستمر. لا أحد يهتم بالتساؤل، في نطاق الذهنية العلمانية، عمن يمكن أن يكون مسؤولا على حلول كارثة ما بالطبيعة والإنسان! إذ هذا سؤال عقيم لا يقدم شيئا في الواقع، بخلاف الأسئلة البناءة التي تفرضها مثلا ضرورة التقليل من خسائر الكوارث، أو إمكانيات توقعها سلفا، أو سبل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الانهيار المعلن للبيئة بفعل ما ألحقه بها الإنسان من ضرر على مر الزمن… هذه هي الأسئلة التي يفرضها منطق الفعل ويكون لها أثر واقعي ملموس في نطاق مجال واقعي ملموس هو الطبيعة وتقلباتها.
يظن بعض ورثة التقليد، عن خطأ، أن هذه المنهجية العلمانية تقع خارج الدين، إذ تتطاول على ما ورث من تفسيرات دينية لكلام لله في الطبيعة، وتقدم بدلها تفسيرات أخرى، فيفضلون البقاء خارج التاريخ حفاظا على طمأنينة النفس. الواقع أن هذا الاعتراض غير ذي أساس، فإذا كان التقليد الموروث مصدره إلهيا، لم لا يكون العلم المتجدد إلهي المصدر كذلك؟ أليس لله خالق العلم والعلماء؟ ليس ثمة أي تناقض بين الإيمان بالعلم البشري المتطور باستمرار والإيمان بأن لله خالق الكون والعلم والعلماء!
ربما أن العائق الحقيقي يكمن في المسؤولية التي يقتضيها المنطق العلماني، مسؤولية البشر عن أفعالهم، عما يقومون به أو ما يجدر أن يقوموا به لحماية سكان المناطق المشمولة بالزلازل من آثار الكارثة، بدل التحلل من المسؤولية بالاختباء وراء كل التفسيرات التقليدية التي تتيح ذلك، أكان أصلها دينيا أم غير ديني.
إسماعيل بلاوعلي