بين المغرب وسوريا تاريخ طويل لم يسلم من محطات ظلال، منذ إيديولوجية الأمويين التي سامت الأمازيغ الخسف، ومثّلت بطارق بن زياد الذي مات بلا قبر في غياهب سجون بين أمية بدمشق. ولكن نسلا من بني أمية، وقد أديل منهم من بين العباس، لم يروا بُدا من أن يرحلوا إلى المغرب، انطلاقا من وشائج الدم، وأواصر الدين. وهكذا ارتحل عبد الرحمن الداخل إلى بلاد المغرب، بلاد خؤولته، ومن ثمة إلى الأندلس، وأقام تجربة فريدة مادتها الأمازيغ أولا، والقيسيون اليمنيون ثانيا، وتألب عليها العرب العدنانيون. ومنذ ذلك التاريخ، ونحن والسوريون نشترك في هذا التراث الفريد، أو العقد الفريد، تراث الأندلس وروحها وعبقها. يعرف ذلك منا السوريون ونعرفه منهم، ونتأثر بهم مثلما يتأثرون بنا. تسمت فاس بالفيحاء على غرار جِلّق أو دمشق، ونظم الحلبيون مواويلهم على غرار موشحات الأندلس. ونذكر أن بعضا من الماهدين من أبناء الشام من أرادوا أن يستنشقوا عبير الأندلس في بداية القرن العشرين أمثال شكيب أرسلان وأمين الريحاني وآخرين حلوا بطنجة وتطاون، وكانوا لأبناء المغرب حاضنين.
ثم أفسدت الإيديولوجية هذه الوشائج، ورعى نظام صلاح الجديد عناصر تخريبية، وآمن برسالة مهدوية تريد أن تُطوع بلدا عريقا ذا شخصية راسخة، ودارت الدوائر على صلاح الجديد، ولم يتخلف المغرب من نداء الشهامة وواجب النصرة، فبعث أبناءه في حرب أكتوبر وسالت دماؤهم الزكية في الجولان، ولا تزال مقبرة نجها في سفح الجولان شاهدة على هذا الالتحام من قبور ذوينا الأشاوس، من الريش، وتينغير وقصر السوق (بلدتي) وورززات، وهم الأمازيغ، والرائد العلام، من سيدي قاسم، وهو من العرب. هي آصرتنا الشمّاء. يُقدرها لنا الشعب السوري ويحفظها لنا، وهي التي تدرأ تخرصات المتخرصين وأراجيف المتقولين.
وقبله أئمتنا وعلماؤنا الذين ارتحلوا إلى الشام، وعلى رأسهم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي. وبعده هذا الشارع الطويل الذي يبدأ من مطار دمشق إلى وسطها على أكثر من 20 كلم ويحمل هذا الاسم الملحمي الذي له اثر قوي في نفوسنا، طارق بن زياد. ثم هذه الساحة وسط العاصمة المغربية والتي تحمل ساحة الجولان. هو ذا الثابت. أما النظام فشأن السوريين.
لم يزعم أحد من أن هدم حماة قبل أربعين سنة عمل بطولي، وأن ما يقوم به النظام اليوم من قصف شرعي، وما قام به من تقتيل وتدمير جائز مبرر، أو أن طبيعته الطائفية مقبولة. كلا. ولكن ما تتعرض له سوريا أكبر من ألاّ نرى سوى النظام. والنظام، أي نظام، شأن أبناء البلد، والوسيلة، لتغييره أو تطويره، أو ما ارتأى السوريون، هي عبر ما رفعته الشعارات منذ أول وهلة “سلمية” “وبدي حرية”. ما يتهدد سوريا اليوم هو الإجهاز على بنية الدولة، هو تمزيق للحمة بلد، هو تهجير لبنيها، هي نكبة جديدة. مؤسسات الدولة ومرافقها هي ملك للشعب السوري، ولا يسوغ بحال أن نمالئ من يريد الإجهاز عليها. الشعب هو الثابت، والنظام هو المتحول، والقيادة عابرة، وبنية الدولة ومؤسساتها ومرافقها وتراثها، ملك للشعب.
أضحت سوريا ساحة للعبة كبرى متداخلة متشعبة. ساحة لصراع قوى إقليمية، ولقوى دولية، بل ذريعة للدب الروسي ليثبت للعالم عودته. وهل من الذكاء أن نؤلب روسيا ضدنا، ولنا معها حتى في عز الحرب الباردة علاقات اقتصادية وسياسية، واحترمت دوما بلادنا وثوابته ومصالحه الاستراتيجية.
من واجب المغرب أن يدافع عن إخوانه حينما يتعرضون لهجوم أو اعتداء، ولكنه سيُخلف تاريخه ورسالته ودوره إن أضحى كَلاّ لأي كان، أو زُج به في صراعات مذهبية هو بعيد عنها، وفي منأى عنها.
لقد قدم العلامة، فخر المغرب، علال الفاسي، دراسة عميقة عن المذهب المالكي باعتباره قَوام الشخصية المغربية، وروحها الوسطية التي تجمع بين دعاوى أهل السنة والجماعة، مع محبة آل البيت، واستشهد بهذه المقولة الرائعة لإمام دار الهجرة، مالك رضي لله عنه في نصيحة له لمغربي: قم بالأركان كلها، ولا تُعادِ أحدا. هو ذا الإسلام المغربي إن صح أن نُعرّفه. ألا نُعاديَ أحدا ونقف سدا منيعا لمن يريد أن يفرض تصوره علينا، أو يجري هيمنته علينا، أو وصاية من أي نوع كانت.
لقد عانى العالم العربي من إيديولوجية منمطة هي القومية العربية، وعانى من تداعيات البترول وما أفرزه من استقواء وريع وغطرسة، وعانى وما يزال من توظيف الدين في السياسية، وكنا، في بلدنا، ضحايا لذلك كله… وتلك عناصر كلها في طور التحلل والاضمحلال. اليوم نحن في موعد مع التاريخ، فلا يسوغ أن نخلف الوعد.
نحب شعب سوريا، ونتمنى أن تنتهي غمة السوريين، وتسترجع الفيحاء أريجها، والشهباء بريقها، أما طبيعة النظام فشأن السوريين.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير