سيكون النقابيون والنقابيات بالمغرب، عند صدور هذا العدد الجديد من مجلة «زمان»، قد خاضوا إضرابا عاما، يوم 29 أكتوبر، بمختلف قطاعات الشغل والإنتاج، سواء بالقطاع العام أو الخاص.
دعت، في بداية التوتر، ثلاث نقابات فقط لخوض إضراب عام، فتطورت الأمور، بعد أن انضمت إلى الدعوة معظم النقابات بما فيها قطاع من النقابة القريبة من حزب «العدالة والتنمية»، العمود الفقري للحكومة الحالية. ولم يعد الأمر مجرد توتر عابر سيطاله النسيان بمجرد انتهائه، بل حدثا ستكون له امتدادات على الحقلين السياسي والاجتماعي.
فالاحتجاج على تردي الأوضاع الاجتماعية للفئات المتوسطة والدنيا أصبح من المعطيات اليومية لحياة المغاربة. فحتى الأرقام الرسمية، ومنها إحصائيات وزارة الداخلية، لم تعد تخفي عمق الغضب الشعبي الذي تعبر عنه عشرات الاحتجاجات في اليوم الواحد على طول وعرض المساحة الجغرافية للمغرب.
فضاءات الاحتجاج تتسع باستمرار والتعبير عن التذمر وضيق مساحات العيش الكريم لا ينبع فقط من أفواه «محترفي الاحتجاج»، بل من الفئات والمناطق التي كانت سابقا محسوبة على «المحظوظين» أو على «الراضين بما قسم لله». فالأولون تقلصت حظوظهم وضعفت قوتهم الشرائية، أما الآخرون فقد انحدروا إلى مناطق الهشاشة الاجتماعية، فانتقلوا من «ثقافة المكتوب» إلى ثقافة «الناس سواسية كأسنان المشط»… والتجأت كل هذه الفئات المكلومة إلى الاحتجاج. أصبح هذا المعطى شبه بنيوي منذ أكثر من عقدين من الزمن، وتعايشت معه كل الحكومات السابقة، كما حاولت امتصاص الغضب الشعبي ظرفيا وتأجيل البحث عن الحلول الجدية إلى أجل غير مسمى، ساعدها في ذلك إلى حد ما الارتباط العضوي الذي كان حاصلا بين الحقل السياسي والحقل النقابي، وهيمنة الأول على الثاني عبر سيادة نموذج «النقابة الحزبية» على الاحتجاج الاجتماعي.
إن أهم تغيير سيشهده الحقل الاجتماعي منذ بداية الألفية الثالثة هو بروز إطارات جديدة للاحتجاج والتعبير عنه في الفضاء العمومي (حركة المعطلين الشباب، تنسيقيات مناهضة الغلاء، جمعيات مناهضة الهشاشة والتهميش، فضلا عن قطاعات بكاملها داخل النقابات المعروفة تستقل بفعلها عن المركزيات وتركز على فئاتها).
سيثمر هذا التوجه، من جهة قلقا داخل أوساط المركزيات النقابية، ومن جهة ثانية تبعثرا في الفعل الاجتماعي ستعتقد الدولة، وخصوصا مصالحها الأمنية، أن سمة التبعثر «بركة من السماء»، وأن الدولة لها القدرة والكفاءات الأمنية لإطفاء لهيب أي احتجاج ما دام المغاربة لا يحتجون بشكل موحد وبمطالب دنيا مشتركة. فاستقرت السلطة والحكومات المتعاقبة في سياسة «اتركهم يصرخون وافعل ما هو مقرر». إلا أن الغضب ينضاف إلى الغضب ويثمر غضبا أكبر… وتحت وقعه تنفك بعض القيود الإيديولوجية والسياسية والمجتمعية… وفي بعض الظرفيات الاستثنائية، يتجاوز الفاعلون واقع التبعثر ليبدعوا الفعل المشترك كما حصل مع «حركة 20 فبراير».
المفارقة، اليوم، هي أن الحكومة التي استفادت من الظرفية التي خلقها فعل «20 فبراير» والتي كان معظم مكوناتها ضد الحركة الشبابية، هي نفسها التي تخلق شروط عودة «الفعل المشترك» للغاضبين على السياسات العمومية المعتمدة. لقد بشرت هذه الحكومة بعد تنصيبها بنسبة نمو مرتفعة، بمحاربة الفساد الإداري والمالي، بتقليص الفوارق الاجتماعية، وبإنصاف الفئات المهمشة والغارقة في أوحال الهشاشة. إلا أنها، بالإضافة إلى استمرار الفوارق وتفاقمها، وتدهور الأوضاع المالية وارتفاع المديونية الداخلية والخارجية، فإنها تغامر بنسف «العقد الاجتماعي الضمني»، الذي بني على قاعدته مغرب ما بعد الحماية، أي العقد الذي يضمن الحد الأدنى من العيش عبر دعم لمواد الاستهلاك الأساسية، والذي يؤمن حدا أدنى من الكرامة عبر تقاعد يلطف شيئا ما آخر سنوات العمر، ولو أن نسبة ضئيلة من الساكنة هي المستفيدة منه. هذا «العقد الاجتماعي الضمني» هو الذي يتعرض للمراجعة بطريقة انفرادية استعجالية وباستهتار لا مسؤول أمام تعقيد وجدية الموضوع.
لقد راج بعد خطاب العرش حديث عن معضلة التوزيع غير العادل للثروة المغربية، وضرورة رفع الحيف عن الفئات الواسعة المتضررة.
ولا يستقيم الحديث عن إعادة الاعتبار لـ«الرأسمال غير المادي» إلا بتكريم الإنسان المغربي وقدراته وكفاءاته وقيمه المنتجة…
منطوق الخطاب الملكي ومتطلبات الانتقال من واقع الشطط والهشاشة إلى المجتمع الحداثي الديمقراطي العادل والمتضامن يتطلبان إرساء قواعد عقد اجتماعي أصيل يخرج من الضمني إلى الصريح. ومن الواضح أن الطريق ليست الاستفراد والأمر الواقع، بل الإشراك والتأني والحوار وحسن الإنصات. هكذا يصبح الاحتجاج وسيلة، ويتحول بشكل إيجابي إلى تعاقد ملزم للجميع. ثقافة التعاقد تتنافى مع المناورة والخداع، فهي اختيار حضاري مؤسس على قبول التعدد واحترام الرأي الآخر، اختيار ينبذ التشنج ويثمن الإنصات… فانصتوا لبعضكم البعض…
المصطفى بوعزيز
المستشار العام