تعد الانتخابات الحرة والنزيهة إحدى مظاهر الديمقراطية، ولا يمكن اختزال هذه الأخيرة في الاحتكام لصناديق الاقتراع، ومع ذلك فالعمليات الانتخابية مؤشر مهم على الحقل السياسي وعلى الثقافة السياسية السائدة في البلد.
عاش المغاربة، خلال الأسابيع الأخيرة، على وقع الانتخابات المحلية والجهوية، وتفاعلوا، بتفاوت مع مختلف مراحلها، أي التسجيل في اللوائح الانتخابية، تتبع عمليات وضع الترشيحات، مواكبة الحملات الانتخابية، ممارسة حق التصويت يوم 4 شتنبر، والتفرج على مشاهد تشكيل مكاتب الجماعات والجهات.
ابتهجت الأوساط الرسمية بارتفاع نسبة المشاركة إلى ما يفوق الخمسين في المائة من المسجلين في اللوائح الانتخابية، وهذا مهم في حد ذاته. فظاهرة العزوف عن الانتخابات أصبحت، منذ سنوات، مؤشرا خطيرا على تقوقع النشاط السياسي المرتبط بالمؤسسات المنتخبة. لذلك نعتبر أن الرقم المعبر عن مدى انخراط المغاربة في الفعل السياسي المدني ليس نسبة المشاركة، بل نسبة التسجيل في اللوائح الانتخابية مقابل عدد المغاربة الراشدين. نعرف جميعا أن نصف هؤلاء، أو يزيد، خارج هذه اللوائح. هكذا يكون أكثر من ثلثي المغاربة البالغين سن التصويت خارج المساهمة الفعلية في اختيار المنتخبين في المؤسسات المحلية والجهوية…
ليفهم قصدنا جيدا، لا نريد بهذا التذكير التشكيك في قانونية النتائج التي أسفرت عنها صناديق الاقتراع، بل نود أن ننبه إلى أن ارتفاع عدد الذين وضعوا أنفسهم خارج الاهتمام بالمؤسسات ليس بالمعطى الذي يمكن تجاهله باطمئنان.
أي رسالة يمكن التقاطها من عدم اهتمام ثلثي المغاربة بالانتخابات؟ غياب وعي سياسي أم لفظ كثيف لنساء ورجال السياسة ببلادنا، أم الرغبة في الانخراط في فعل سياسي غير مدني؟
بما أن هذه الكتلة الهامة من المغاربة غير منسجمة، لا سوسيولوجيا ولا ثقافيا، فإننا نرجح أن الأجوبة الثلاث واردة، وأن أخطرها هو انجذاب مجموعة، ولو صغيرة، من المغاربة إلى فعل سياسي غير مدني.
رب معترض يقول إن الدولة وأجهزتها الأمنية قادرة على احتواء التوجهات الرفضوية، واستباق الانحرافات وإجهاض النوايا الإرهابية، إلا أن العدمية، في تراكبها مع الشعور بالحيف الاجتماعي والغضب المتولد عنه، قد تفاجئ جميع الفاعلين. لذلك نركز على ضرورة إرساء وإشاعة ثقافة المواطنة والفعل المدني، ومن ضمنه المساهمة الكثيفة في الانتخابات. هل ساهمت الممارسات السياسية، خلال الانتخابات الأخيرة، في دعم هذا التوجه نحو الفعل المدني؟ لا نعتقد ذلك.
لقد أصيبت فئات واسعة من المواطنين، سواء المشاركين أو العازفين، بقرف كبير اتجاه خطابات وتصرفات “أهل السياسة”. والسبب هو رداءة الخطاب وبؤس الممارسة.
صحيح أن رجالات ونساء السياسة، اليوم، لا يصمدون في مقارنة مع من سبقهم، إلا أنه من السهل تحميلهم المسؤولية لوحدهم. فهم، كظرفيتهم، نتاج سيرورة من التدهور الفكري والسياسي والسلوكي. فسيادة الفرجة و”الفهلوة” والهزال في المشهد السياسي، اليوم، تقهقر طبيعي آت من عمق ترددات النخب السياسية والثقافية أمام إرساء منظومة قيم منسجمة مع متطلبات الألفية الثالثة وإكراهاتها. سنكتفي بذكر قيمتين كونيتين لا يمكن تجاهلهما من لدن من يريد تنمية ثقافة المواطنة والانخراط الواسع في الفعل المدني.
أولها قيمة التعاقد. فما وقع خلال الحملة الانتخابية، وخصوصا عند تشكيل مكاتب الجهات والجماعات، يفصح عن استهتار بإرادة الأقلية التي شاركت في العمليات الانتخابية. والقرف الذي أصاب هؤلاء بعث رسالة سلبية للجمهور الواسع المستنكف، الذي نتمنى جميعا أن يخرج من سلبيته. لقد عبر “الناخبون الكبار” و”القوى السياسية”، التي تزكيهم، أن لا تعاقد إلا مع المصالح الضيقة، وأن البرامج والمرجعيات لا حياة لها بعد يوم الاقتراع. ذلك أن الممارسات السياسية غير محكومة بالمصرح به وبالمكتوب على الورق. فما يحكمها ويديرها ثقافة أخرى مؤسسة على الزبونية والمقايضة والريع والحساب القصير.
أما التعاقد فقيمة حضارية تؤسس لمجتمع المواطنة، وأفق هذا المجتمع وحده الكفيل من جهة بإخراج جحافل المستنكفين من سلبيتهم، وهو من جهة أخرى القاعدة التي ستجعل الانتخابات ركنا أساسيا من ديمقراطية أصيلة.
المحاسبة هي القيمة الحضارية الثانية والمفتقدة في الثقافة السياسة السائدة. فمعظم من يتحمل المسؤولية، داخل المؤسسات المنتخبة أو داخل الحكومة، يتملص من تركته، ويبحث عن تبريرات لعدم تطبيقه لما التزم به أمام ناخبيه. إن كانت هناك “قوى خفية” أو “جيوب مقاومة” أو “قوى تحكمية” وكلها عبارات رُوِجت، فالشجاعة السياسية والالتزام الأخلاقي يفرضان البوح بذلك، ومقاومته في حينه. نشدد على هذا، خصوصا وأن نتائج الانتخابات فرزت في جزء مهم من المدن أغلبية واضحة. فرجاؤنا أن تمارس مسؤولياتها، قوية بشرعيتها الشعبية، ومستعدة للمحاسبة، دون تملص أو تستر وراء عراقيل رفعها في وجهها المفسدون والمتحكمون. السلطة التي منحها لهم الناخبون سلاح مدني قوي… فلا يجب تعطيله.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام