كيف تفاعل المخيال الإسلامي، دينيا وأدبيا، مع الجنة؟ نبش في صفحات من التراث الإسلامي، والثقافة الشعبية.
احتل مصير الإنسان، بعد الموت، حيزا في اهتمامات البشر بمختلف ثقافاتهم. هذا ما تؤكده الشواهد الدالة على الماضي. مهما اختلفت الرؤى والتصورات، فإنها تكاد تشترك في مبدأ واحد يضع تمييزا واضحا بين الخير والشر، الجزاء والعقاب. فالحياة مجرد محطة يجب على المرء أن يسلك فيها طريق الصلاح، لأن ثمة حياة أخرى خالدة تنتظره بعد الموت، حيث يبعث الميت ليواجه رصيد أعماله في الدنيا. فإما أن ينجح في امتحان الحساب هذا لينال نعيم الرخاء والهناء الأبدي، وإما أن يقع في شر أعماله فيخلد في العذاب. فكيف تصورت الثقافات القديمة فكرة الحياة بعد الموت؟ هل يمكن تحديد بدايات ما لظهورها؟ وهل ثمة قواسم مشتركة بينها؟
الظاهر أن الفكرة قديمة، تبرز أولا، في التراث الفرعوني كما تدل على ذلك عدد من الآثار. ليس الموت سوى رحلة يحاسب خلالها الميت لينجو بسلام إذا صلحت أعماله قيد حياته، وإلا يواجه مصائر بشعة، كما تخيلتها الرسومات الهيروغليفية المخلدة للتراث المصري القديم. ظهرت تصورات أخرى في الثقافات الشرقية، التي ازدهرت لاحقا، حول ما بعد الموت. هناك من تخيل البعث والحساب والحياة الخالدة في النعيم، أو العذاب، مشتركا مع الثقافة الفرعونية في تبني فكرة الرحلة تحت الأرضية. وثمة من تخيل الجنة فوق الأرض، لكن بعد أن تقوم قيامة ويوم آخر وحساب تخلو بعده الأرض للصالحين فقط لتصبح جنتهم الخالدة. ومن تخيل تناسخ الأرواح بعد الموت تبعا لمعايير الصلاح أو الفساد في الحياة الأولى… لعل العناصر المشتركة بين الثقافات القديمة، بهذا الخصوص، تجعل القارئ يفترض نوعا من التواصل في التاريخ الإنساني، ربما تكون نقطة ارتكازه في مصر القديمة وحضارات الشرق العريقة. بينما يدافع مصطفى بوهندي، الأستاذ الباحث المتخصص في علم الأديان المقارن، على نظرية مختلفة تماما، مؤكدا أن أصل الثقافات الشرقية يوجد في إفريقيا، وأن الترجمات الإغريقية ثم الرومانية فالبيزنطية، لهذا التراث الإفريقي القديم، همشت أصحابه الأصليين لتنقله نحو الشرق حيث معاقل المترجمين، مشددا على أن القصص الدينية، في مجملها، تعبر عن أحداث تاريخية وقعت فعلا، لكن بلغة زمنها التي لم تكن سوى لغة الدين، داعيا بالتالي إلى ضرورة قراءة الروايات الدينية قراءة علمية.
من نافل القول، هنا، إن عرض مختلف التصورات القديمة، والروايات اليهودية المسيحية حول الحياة بعد الموت، يندرج تحديدا في هذا المنظور التاريخي، على أساس أن هذا التراث يعبر عن أحداث وقعت في التاريخ، يحاول المتخصصون تسليط الضوء عليها وفك أسرارها، بواسطة ما يتوفر لهم من آثار واكتشافات علمية.
من نفس هذا المنظور تقترح عليكم “زمان” إلقاء نظرة على التراث الإسلامي. كيف أوّل المفسرون النصوص التي تتحدث عن الجنة، والحساب، والقيامة؟ إلى أي حد تأثرت هذه التفسيرات بالمعطيات الثقافية للمجتمعات التي عاشوا فيها، أو تلك التي ربما ورثوها من ثقافاتهم السابقة على الإسلام؟
في هذا الصدد، تقدم “رسالة الغفران”، لأبي العلاء المعري، نموذجا للآداب الإسلامية التي اهتمت بالموضوع. في هذا النص يتخيل المعري وصفا للجنة في قالب أدبي بديع، حتى أن ثمة من النقاد من تصور أن “الكوميديا الإلهية” الشهيرة، اقتبسها دانتي من مؤلف المعري هذا. لكن التراث الديني عموما أعرض عن مثل هذه الأعمال الأدبية، وأخضعها لمنطق رقابة دينية صارمة تعتبر أن تأويل النصوص الدينية مؤطر بمعايير جعلها أصحابها أكثر قدسية من النصوص نفسها! يستثنى من هذا التهميش ميدان الجهاد، إذ لم يتردد الكتاب المحرضون على الجهاد في إبداع تخيلات خاصة لما ستكون عليه حياة السعداء الخالدة في الجنة، ثم جاء كتاب معاصرون ليبعثوا هذه التأويلات ويضيفوا عليها بصماتهم الخاصة، في معرض سعيهم لاستقطاب المتطوعين للجهاد الأفغاني، خصوصا، والذي كان منطلقا رئيسيا للظاهرة الإرهابية المستمرة حتى اليوم.
هيأة التحرير
تتمة الملف تجدونها في العدد 48 من مجلتكم «زمان»