أثارت التصريحات الأخيرة للمسؤولين الجزائريين بشأن الوحدة الترابية للمغرب ردود فعل قوية في الأوساط المغربية، الشعبية منها والرسمية، وأعادت إلى دائرة النقاش مسألة الحدود والجوار، وإمكانية بناء شراكة حقيقية سواء بينية أو مغاربية. لا نعتقد أن لغة التصعيد وشد الحبل بين الجاريين المغاربيين وليدة الظرفية الحالية، ولكنه انبعاث من تحت الرماد لجمر اشتعل قديما، ولم تنضج بعد شروط التخلص منه بالمرة.
عاشت كل من فرنسا وألمانيا وضعية أعقد وأصعب، فالحساسية بينهما كانت قائمة، ولها جذورها ومبرراتها التاريخية، انتهت بمواجهة عسكرية سنة 1870، عندما أقدمت ألمانيا على احتلال إقليمي الألزاس واللورين الفرنسيين. فأعلنت التعبئة الشاملة في فرنسا، وانبرى المؤرخ الفرنسي للتأليف في التاريخ السياسي والعسكري لبلاده، مبلسما جراح الفرنسيين، بتذكيرهم بأمجاد أجدادهم لإعادة الاعتبار للذات الفرنسية المهزومة في الشمال. وجاءت الحرب العالمية الأولى، واعتبرتها فرنسا مناسبة لرد الصاع صاعين وإذلال الألمان عسكريا ثم دبلوماسيا (معاهدة فرساي1919). فولد الحقد والانتقام رد فعل أعنف بعد ما خرج المارد الألماني من قمقمه في زي نازي معلنا الحرب العالمية الثانية، واكتساح جدار الدفاعات الفرنسية في زمن قياسي، وبشكل مذهل جعل أحد المؤرخين الفرنسيين المرموقين، وأحد مؤسسي مجلة ومدرسة الحوليات، مارك بلوخ يتحول إلى أحد قادة حركة المقاومة الفرنسية، ويؤلف كتابا في شكل شهادة للضابط/ المؤرخ، عنونه بـ”الهزيمة الغريبة”، تعبيرا عن دهشته من سرعة الاكتساح الألماني. بعد الحرب العالمية الثانية جاء مخطط مارشال في زمن التقاطبات الإيديولوجية على الصعيد الدولي إبان الحرب الباردة، ولم تمر سوى ست سنوات على نهاية الحرب حتى امتدت يد روبير شومان، وزير خارجية فرنسا، نحو الجار الألماني معلنة القطيعة مع منطق الأحقاد والانتقام والثأر المضاد، كخيار مدمر وغير منتج، لفائدة تقارب أريد له أن يلحم بالفحم والصلب، ويشكل قاطرة لاتحاد جامع للدول الأوربية، على قاعدة عقلانية وبرغماتية تنشد الإقلاع الاقتصادي والبناء المؤسساتي الديمقراطي.
على الضفة الأخرى من المتوسط حصل سوء الفهم الكبير، وكان للاستعمار دور كبير فيما حصل، فبعد احتلال الجزائر سنة 1830 سارع أهل تلمسان إلى مبايعة سلطان المغرب عبد الرحمان بن هشام، الذي قبل البيعة وأرسل الدعم، وتعرض للضغوط المختلفة والاستفزازات المتتالية من طرف الفرنسيين، انتهت بمواجهة عسكرية يوم 14 غشت سنة 1844. تعقدت الوضعية بشكل كبير سنة قبل هذه المواجهة، عندما اضطر الأمير عبد القادر الجزائري إلى دخول التراب المغربي، دون تنسيق مسبق مع سلطان المغرب، فانتهت العلاقة بينهما بعد معركة إيسلي إلى التوتر والمواجهة على أرض المغرب، انتهت بتسليم الأمير عبد القادر نفسه للقوات الفرنسية سنة 1847.
شكلت هذه المحطة منطلق سوء الفهم بين الجارين لما رافقها من التباس، فتح الباب على مصراعيه لتأويل متباين لما حصل. ودخل المؤرخون، بل وحتى الأدباء على الخط، منهم من تحدث لغة التخوين، ومنهم من أقر بدعم مغربي واضح في حدود المستطاع للمقاومة الجزائرية. لكن ما عمق التباين في تحليل معطيات ما حصل، هو أن مجريات الأمور تمت في زمن الانتقال من منطق الأمة إلى منطق الدولة القطرية، وبين منطق الفقه ومنطق السياسة تفاوت تقدير الانتظارات والممكنات. يحلل عبد لله العروي هذه الوضعية قائلا: “إن كلا من عبد الرحمان وعبد القادر كان يلجأ إلى منطق الفقه في مواجهة خصمه المسلم وإلى منطق السياسة كلما خاطب الفرنسيين، وهذا أمر مفهوم وطبيعي، لكن الفقهاء في فاس أو في القاهرة، لا يعتبرون السياسة، فكانت فتاواهم دائما لصالح عبد القادر دون التفات لعواقبها السلبية على البلاد والعباد. في هذه الظروف، لم يكن السلطان يستطيع، ولا يستسيغ التخلي كليا عن المجاهدين الجزائريين، فأعلن الحياد رسميا ومع ذلك واصل تزويدهم بالمال والسلاح والخيل، حصل إذن اتفاق ضمني بين السلطان وعبد القادر يساعد الأول الثاني في حدود الاستطاعة دون تورط، ويقبل الثاني مبايعة الأول لأن هذا هو ما يفرضه عليه الشرع الذي يحتمي به”.
بدأ الوضع النشاز إذن مباشرة بعد معركة إيسلي، وفقد المغرب بعدها، بمقتضى معاهدة للالة مغنية في 18 مارس 1845، أجزاء مهمة من حدوده الشرقية بعد أن سمح التباس ترسيم الحدود وفق البنود 4-5 و6 من هذه المعاهدة لفرنسا بقضم أجزاء مهمة من خريطة المغرب.
عاد سوء الفهم مرة أخرى ليفسر سياق حصول كل من المغرب والجزائر على استقلالهما، رغم المبادرات المشتركة بين زعماء الحركة الوطنية وجيش التحرير بكلا البلدين، ورغم تأجيل بحث ملف الحدود، وانتهى الأمر إلى مواجهة عسكرية عرفت بحرب الرمال سنة 1963. هكذا وعوض الخروج من شرنقة الماضي المكبل بإرثه الاستعماري تم التمادي في لغة شد الحبل، الذي وصل ذروته بعد المسيرة الخضراء سنة 1975 واحتضان الجزائر لجبهة «البوليساريو».
جثم الاستعمار على الرقاب، وخلف بعد خروجه جراحا ظل ينكئها بفعل اقتصادات تابعة، وغياب مؤسسات ديمقراطية فعلية وفاعلة. وسادت لغة الوجدان والعواطف في مخاطبة الجوار في العلن واستبطان الأحقاد وزرع الأشواك في السر، عوض لغة العقلانية والمصالح الاقتصادية والشراكات المنتجة التي تؤهل المشترك المغاربي ليصير فعلا قوة إقليمية.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير