قبيل سنوات، شاع عندنا خطاب عن الحداثة وفشا. لم يكن يُفهم من الحداثة إلا جوانبها التقنية، سواء في القضايا المادية أو التدبيرية أو المرتبطة بالانتخابات. كان ذلك الخطاب رد فعل ضد اتجاهات اجتماعية وسياسية أكثر منه بناء أو تصورا… توارى أصحاب خطاب المجتمع الحداثي الديمقراطي، أو لم يعودوا يلوحون بشعارهم، لأن بضاعتهم أنفقت أمام الدينامية الداخلية والتطورات الإقليمية والدولية.
الحداثة هي الأمل المنشود، لأنها تعني بكل بساطة أن يعيش الفرد أو المجتمع وفق ما انتهت إليه التجربة الإنسانية في عصره. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟
أول الأشياء هو بناء تصور لهذه الحداثة كما نقول، أو إلى فكر تنويري كما يقول المصريون. ومن العبث كما يذهب البعض في كثير من اللغط والتنطع الزعم بإقامة بناء كرد فعل ضد شيء قائم.
وشئنا أم أبينا، فما تزال منظومة الحداثة أو التنوير تَمُتُّ بوافر الصلة للغرب، نشأت بأرضه واصطبغت بملامحه وحملت أثره. لا بد أن ندرس هذا المسار وملابسات قيامه، من حيث الرؤية السياسية، كرد فعل للحكم المطلق. لا بد أن ندرس بتأن كيف تم تفكيك بنية المنظومة السياسية للنظام القديم بفرنسا، مع كل من مونتسكيو وفولتير، وكيف أكب روسو على العدالة الاجتماعية والعوائق التي تحول دون ذلك، ثم بعد ذلك ننصرف إلى النظرة العلمية لتفكيك بنية العلاقات الاجتماعية مع كل من سان سيمون، فأكوست كونط، مما هيأ بعدها للمدرسة الماركسية… لا بد أن نقوم بذات الشيء، أن نفكك البنيات التي تعوق التحرر وتحول دونه، أن نفعل ذلك في أناة، وفي قصد، وفي روية، بلا صخب، متسلحين بأدوات العلم الحديث والمعرفة العميقة. ومن الضروري أن ندرس بإمعان محاولات التحديث في العالم العربي، لأننا تأثرنا بهذا العالم، ونشترك وهذا العالم في كثير من مشاكله وأدوائه ومعضلاته… لا بد أن نقف على المحاولات التحديثية التي قامت سواء من أرضية الدين أو التراث، كما مع محمد عبده وعلي عبد الرزاق، أو من خارجه، من قِبل الليبراليين، أو حتى من الماركسيين والقوميين.
لا يمكن أن نزعم أننا سنبني من فراغ، ذلك أن أرضنا الطيبة أنجبت ماهدين ذوي رؤية وبصيرة وشجاعة، ولكن رغم عمق ما أنجبه الجيل الذي قارع الاستعمار، أو الذي أعقبه، تظل كتابات هؤلاء وجهودهم الفكرية غير متاحة، أو غير معروفة في العمق، إلا من بعض الشذرات أو العناوين… وهناك، ولربما هو الأهم، عقدة الاستخفاف بالوطني والنظر إليه بازدراء، مع أن هذا الوطني قد يكون أعمق ونظرته أقرب لواقعنا… يلحظ مثلا من يقرأ مراسلات كل من شكيب أرسلان وعبد السلام بنونة، أن هذا الأخير كان صاحب نظرة عميقة. وتضع اجتهادات علال الفاسي في تجديد الفكر الديني إلى جانب أساطين الفكر في العالم الإسلامي وتبوئه مكانة سامقة، ويعتبر كتاب عبد لله إبراهيم، «صمود وسط الإعصار» من أعمق ما أنتجه الفكر المغربي، يحمل نفحة ابن خلدون، ويدحض بذات الأدوات العلمية المدرسة الكولونيالية ونظرتها المغرضة… وأنجبت جامعتنا مفكرين مرموقين أمثال الجابري والخطيبي، والعروي، وآخرين، يكتشفهم الآخر قبل أن نكتشفهم. هو تراث وطني يتحتم أن نقربه للناشئة ونحّينه، إن اقتضى الأمر…
إلى هذا ينبغي أن ينصرف العمل أكثر مما يسمى بتجديد الفكر الديني، مع ضرورته، لأن التنوير هو القوة الدافعة، وهو النور الساطعة التي إن هي بزغت عمت كل الأرجاء… فلا تجديد للفكر الديني خارج مجتمع متنور، وثقافة عصرية مستشرية…
يحلو لي أن أردد فكرة للأكاديمي والسياسي الأردني مروان معشر إذ يقول: «إن اليقظة العربية الأولى في بداية القرن الماضي كانت شأن نخبة من دون جماهير، أما ما اعترى العالم العربي، مؤخرا، فهو رجّة جماهير من دون نخبة…»، وفي هذا القول جانب من الصواب.
ليس مطلوبا من المثقف أن يتخندق في طبقة أو فئة ينافح عنها كما تفرضه دواعي المثقف العضوي، أو كما يفعل الشاعر ما قبل الإسلام (أو ما قد يسميه الغالبية بالجاهلية)،: «إن غوت قبيلته غَزِيّة غوى، وإن ترشد يرشد». كلا. لابد أن يتسلح المثقف بأداة النقد، وإن أغضب. ولا بد كذلك أن يتحلى بالأناة، فيكون المعلم الشفيق، في تؤدة وبيداغوجية في غير تنطع أو استغلاق. ولا بأس أن يتعب ذوو الفكر، ولا ضير أن يتعرضوا لشتى الفتن وضروب المحن، فتنالهم ألسنة السوء بمُقذع القول، لأن ما يقومون به لمجتمعاتهم أوفى من عَرَض الدنيا وغواية الألقاب… لأنهم يرسمون السبيل، لأنهم كالذبالة تضيء للناس وهي تحترق، كما يقول الأحنف بين قيس في عجز هذا البيت الجميل.
ويعجبني استشهاد الباحث الحصيف رضوان السيد، مُحورا البيت الشهير لأبي العلاء المعري، وهو يتحدث عن الحداثة، فـ«مزارها قريب، ولكن دون ذلك أهوال»…
ولا بد من خوض تلك الأهوال.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير