أنتمي إلى جيل لم تكن فيه الفراشات مرتبطة فقط بالجمال وفصل الربيع، بل كانت لنا فيها مآرب أخرى، لا نجرؤ اليوم على البوح بها، وسأقولها لكم شرط أن لا تفشوا السر…
كنا متعجلين كي نصبح رجالا، وكان الحل هو اصطياد فراشة، وحكها على العانة، وشبيك لبيك، وها هو الشعر ينبت، كثا وكثيفا.
وإلى أولاد البلاي والإكسبوكس والأنترنت الذين لم يجربوا هذه الوصفة، ولا يفقهون في هذا العلم، ولم يقبضوا يوما على فراشة، أخبرهم أنها، وسواء كانت ملونة أو بيضاء، فإنها، وبمجرد حكها، تزول صباغتها وتلزق بالموضع المدعوك بجناحيها، وتحقق المراد من هذه العملية التي تعلمناها ممن يكبروننا سنا.
وبعد أن كان ينبت لنا شعر في العانة، ونفرح به، ونندهش، نصبح متطلبين أكثر، ومستعجلين، وغير راضين عن أعضائنا الصغيرة، مقارنة بتلك التي يتوفر عليها البالغون منا، فنلجأ إلى نبتة طفيلية، تفرز مادة لزجة كالحليب، نسميها “الحلوبية” فندهن بها أشياءنا، على أمل أن تكبر وتشتد وتطول، والذي يحدث هو أنها كانت تنتفخ في الحين، لكنها، وللأسف الشديد، تعود إلى حجمها الطبيعي، بعد ساعات، وبعد أن يزول مفعول حليب النبتة العجيب. ورغم أن حلمنا لم يتحقق، ولم نكبر قبل الأوان كما كنا نتمنى، فقد قررنا وعقدنا العزم أن لا نبقى أطفالا، وبدل أن نلعب ألعاب الصغار المملة والتي لا إثارة فيها ولا مجازفة بالحياة، اخترنا أن نغامر بأرواحنا، وأن نتحول إلى إرهابيين، قبل أن تظهر موضة الإرهاب في العالم، فكنا نشتري الكاربون، ونمزجه بالماء في قنينة زيت كريسطال، ثم ندفنها تحت التراب، ونشعل النار فوقها، مع الابتعاد عن الخطر بمسافة أمتار قليلة، وبعد ثوان معدودة، تصل اللعبة إلى نهايتها، ونسمع: بووووم، بوووووم، ونتفرج على الانفجار الضخم، وليكون لوقعه أثر على النفس، وليخلف ضحايا، فإننا كنا نضع قرب القنبلة التي نصنعها عصفورا أو جروا، والفرق الوحيد بين إرهابنا وإرهاب هذه الأيام هو أننا لم نكن نصرخ: ” لله أكبر، لله أكبر”، بعد كل عملية ننفذها، وبدل ذلك كنا نركض وندور حول مسرح العملية مثل هنود حمر.
كان عالم الكبار يأسرنا، فنغار منهم وهم يدخنون السجائر، وتشبها بهم، كنا نأتي بورق قالب السكر، ونلف فيه الشاي، وننتشي كما يفعلون، ورغم كل هذه المحاولات والتجارب الطبية والعلاجية، ورغم كلامنا الداعر، فقد ظلت أعضاؤنا صغيرة، وعندما كبرت بشكل طبيعي، صارت مزعجة وتطالب بأشياء لا نستطيع توفيرها لها، فاكتشفنا الورطة التي وضعتنا فيها، وصعوبة تلبية ما تشتهيه، وغضبها، وانتصابها المفاجئ، وبكاءها، ورغبتها الملحة في البنات، بينما البنات قليلات، ولا يسمح بالاقتراب منهن.
كنا نحتاج إلى أكل الحلاوة، ولأن لا مال لدينا، فقد كنا نسرق سكرا من المطبخ، ونشعل النار، ثم نذوبه، ونسكبه في زاوية علبة الحليب، التي كانت مثلثة في ذلك الوقت، ونغرس فيها عودا، فنحصل على مصاصات لذيذة، تنافس لذة حلوى”جبح” وكوجاك، والفرفارة، وحبات Pastille Valda الصغيرة، التي نشتري خمسا منها بريال، فنمصها ونرطب بها الحلق الجاف، ونستعملها كعلاج للزكام.
وعلى ذكر الفرفارة، التي كانت تباع مع خيطها، فنلعب بها وندورها، حتى تصبح سوداء ملتقطة كل الأوساخ والقاذورات، وبعد ذلك نلتهمها، ونتلمظ، دون أن نصاب بأي مرض أو تسمم، كما يحدث للصغار اليوم، الذين يمرضون لأي سبب تافه. ورغم أن الفرفارة انقرضت، فآثارها مازالت موجودة على بعض ممن عاصروها، وفي حالة ما إذا صادفت شخصا بشفة مشرومة، أو بسن مكسورة، فتأكدوا أنها تتحمل مسؤولية ذلك، ولا تظنوا الظنون بالمخزن أو سنوات الرصاص، فغالبا ما كانت تصيب مشتريها، وهو يلعب بها، ويقربها من وجهه، وقلة فقط من ذلك الجيل من نجا منها، ولم تجرحه، ولم تكسر أنفه، ولم تترك ندوبا فيه.
أما علك بازوكة، فكان مضغه يقوي عضلات الفك، ويثير الأعصاب، ويجعلك على أهبة الاستعداد لعض كل من حاول الاعتداء عليك أو مجرد الاقتراب منك. وأحيانا كنا نغتسل، وكان شامبواننا هو”دوب”، وهو عبارة عن كيس صغير مضغوط، لا يمكن فتحه إلا بمقص أو شفرة حلاقة أو بأسنان حادة، ومتدربة بمضغ علك بازوكا المصنوع من المطاط الحلو، وعندما تفتح “دوب” بأسنانك، فإنك تكون مضطرا إلى أن تبتلع نصفه، الذي يخترق بلعومك كسهم، وكل من عاشوا تلك الفترة مازالوا يتذوقون ذلك الطعم. فلا يبقى منه إلا القليل، وهو الذي نسكبه فوق رؤوسنا لينظف الشعر، بينما الجزء الذي شربناه يتكفل بمهمة غسل أمعائنا وتنظيفها من الأوساخ التي كنا نأكل. كل شيء كان حلوا ولذيذا ومثيرا وخطيرا وأكشن في تلك السنة من القرن الماضي، وبعدها مباشرة، وفي العام الموالي، فرجتنا السلطة على الدبابات، ومثّلنا الحرب، وكان إضراب 81 الشهير بمثابة تعويض لنا عن الحروب التي لم نعشها، فأحضروا لنا العسكر، والبنادق، والهراوات، ومتعونا كما لم نتمتع من قبل، وحصلت الداخلية على أسرى، واعتقلتهم، واعتقلت شقيقا لي، كان خارجا ليحضر النعناع، فلم يدر بنفسه، إلا وقد تحول إلى معتقل سياسي، نزوره في السجن، ونحمل له الطعام.
حتى ركلة رجال القوات المساعدة كان لها طعم خاص، وأتذكر ألمها الآن على مؤخرتي، وقلة فقط من لم يتذوقوها، حين كان المغرب ممتعا، يضربنا المعلمون، ويضربنا البوليس، وكل من نصادفه في الطريق يعتدي علينا دون وجه حق، بينما ننتقم منهم ونخفف من آلامنا بشي عصافير الدوري، والتهامها مقرمشة بعظامها الرقيقة، وصيد الفراشات، كي نكبر بسرعة، وندافع عن أنفسنا عند الضرورة. إنها قصتي، وقصة عدد كبير من أبناء جيلي، وتأريخ للتفاصيل الصغيرة التي يهملها الجميع، ومساهمة مني في إحياء الماضي البئيس، وحتى لا ننسى الفرفارة وفنيد جبح وعلك بازوكا وجبان كولوبان وشامبوان دوب والحشرات التي عاشت معنا، وتكريما مني لأطفال تلك الفترة، الذين كان مثالهم وقدوتهم في الحياة هو ماوكلي فتى الأدغال.
حميد زيد