على بعد ثلاثة عشر كيلومتر تنفصل قارتان وعالمان، الغرب والحضارة العربية الإسلامية، تناحرا عبر التاريخ، وتفاعلا من خلال ذلك التناحر، وهو من مكر التاريخ. في الأيام الصحوة، يتبدى جبل طارق ناصعا من ضفة المغرب، كما يتبدى جبل موسى، من ضفة الأندلس. راود الحلمُ الكثيرين بربط القارتين، مثل داعب آخرين الخيال في سبب هذه اللعنة التي فرقت ما كانت متصلا جيولوجيا، وما ينبغي أن يكون متصلا ثقافيا وإنسانيا. عزوا ذلك لغضب الآلهة وقد وظفت هرقل كي يفصل ما كان متصلا. في عالم التكنولوجيا الحديثة، اعتبر الملك الراحل الحسن الثاني، أسوة بما جرى في بحر المانش، إمكان ربط القارتين، وتم تشكيل لجنة من أجل ذلك. ولا يدري أحد مآل تلك الدراسات والخيار ما بين النفق والجسر.
لكن ألا يمكن أن نحلم بربط قار، غير مكلف ماليا، ولو أنه عسير، وهو الارتباط ثقافيا بالضفة الغربية… أي أن يستشعر الشخص الذي ينتقل من ربوع المغرب، إلى رحاب أوربا أنه يتحرك بداخل بنية مألوفة لديه وإن اختلفت اللغة، كما قد ينتقل الفرنسي إلى إيطاليا، والسويسري إلى ألمانيا، والهولندي إلى بلجيكا… تختلف اللغة وبعض أنماط الثقافة، ولكنها هي ذات البنية الذهنية، وهو ذات السّدى.
ليس في الأمر جديد، إذ حينما نستنطق أول دولة في العالم العربي عرفت التحديث وهي مصر، كانت تشرئب بنظرها نحو أوربا، مثلما نظّر لذلك طه حسين والجغرافي جمال حمدان الذي استحضر نموذج الأندلس، أو أوربة الحضارة العربية، حسب تعبيره، واعتبر أن مصر هي القادرة بأوْرَبَة الحضارة العربية مرة ثانية.
الإيمان بالامتداد الأفقي في المغرب، أي الارتباط العضوي بين الضفتين، لم يجد الاتجاهات الفكرية المعبرة عنه، على خلاف مصر، وظل حبيس البنية التقنوقراطية، ولذلك ظل خيار التحديث، فكريا، بعد ضمور الشيوعية والقومية العربية، منفصلا عن مرجعية فكرية… أو مشتتا بين اتجاهات عدة… في كتاب “مستقبل الثقافة في مصر”، يورد طه حسين جملة مأثورة، وهي أن من عرف الغاية عرف الوسيلة، نظريا. إذ ليس من السهل معرفة الوسيلة، والحال أنه من العسير القول إن مصر أفرزت منظومة تربوية تصلح لأن تكون نموذجا، ولا لهذا الذي داعب جمال حمدان من أوربة الحضارة العربية الإسلامية.
لست أنطلق من تجربة مصر فيما أروم من الربط القار، ولكن من تجربة تركيا. لمصطفى أتاتورك جملة مأثورة، أسردها من الذاكرة وهي أن الحداثة تُطوّح بمن يقف ضدها أو يعترض مسارها. فإما أن تعانقها، مع ما يفترض ذلك من أداء رسوم الاشتراك، وإما إن وقفت في وجهها، طوّحت بك… في السبعينات من القرن الماضي، كان وضع ليبيا، أحسن بكثير من الإمارات. أين هي ليبيا الآن، وأين هي الإمارات؟ لأن حكام ليبيا حينها اعتقدوا أنهم يستطيعون أن يبنوا خارج سياق الحداثة الغربية.
الذي يهم في تجربة تركيا، ليست استنساخها، فهو أمر غير ممكن وغير مجدٍ، ولكن الوقوف على خيار تحديثي تدعمه قوى فكرية.
من عرف الغاية، لم يعرف بالضرورة الوسيلة. وما نحتاجه في هذا الظرف، لكي نرتقي بمنظومتنا التربوية هو معرفة الوسيلة، وهي تُختزل في أمرين، تعليم حديث أو حداثي من حيث محتواه، وعصري من حيث طبيعته، أي ما يسمى في أدبيات التربية، بالهندسة التربوية. أي نقاش حول التربية لا يأخذ بعين الاعتبار هذين الهدفين، الحداثة من حيث المضمون، والعصرنة من حيث الإطار، لن يذهب بنا بعيدا…
طبعا الربط القار، يقتضى كذلك قراءة موضوعية لتاريخنا، واستجلاء الذاكرة المشتركة، والدقة في التوصيف أو في وضع القوالب. والحال أننا نتكلم على ظواهر عدة بفهم مزاجي أو تقريبي، وينوب الغضب عن التحليل الرصين، ونعاني مما أسماه المؤرخ عبد لله العروي من مؤرخين غير محترفين وهواة، يصدرون أحكاما منفصلة عن المعرفة والبحث الشافي.
يحكى أن ليوطي وقد زار أوراش بناء مدينة الدار البيضاء، رأى غياب النخيل في حافة الشوارع، فسأل المهندس بروست، لِمَ لم تغرسوا النخيل، فرد بروست لأنها تأخذ وقتا طويلا كي تنمو. فما كان رد ليوطي إلا أن قال : «وهي حجة لتبدؤوا على الفور».
علينا الربط القار، وعلى الفور. ذهنيا طبعا.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير