يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية على وشك مغادرة الشرق الأوسط، إن لم تكن قد غادرته بالفعل. فالأخبار المتواترة والتصريحات المعلنة أو تلك التي تُقْرأُ بين السطور توحي بأن أمريكا سحبت سلاحها الفتاك من المنطقة، ولم تُبْقِ هناك إلا على بعض الآليات على سبيل الرمز .بكلمة واحدة، أن الولايات المتحدة سحبت غطاءها الدفاعي عن دول منطقة الشرق الأوسط: الدول العربية البترولية وإسرائيل. أصبح هذا الكلام يتردد كثيرا على ألسنة المحللين والعسكريين والمخابراتيين الإسرائيليين أكثر من نظرائهم في الدول العربية. ويبدو أن الأمريكيين طلبوا من أصدقائهم الإسرائيليين الاندماج داخل منظومة العالم العربي ومحاولة كسب أصدقاء بالتودد وبالإغراء والابتعاد عن أساليب الحرب والعنف والعجرفة. هذا ما يمكن أن يفسر بعضا من جوانب مما يسمى باتفاقات أبراهام، على أساس أن اليهودية والإسلام ينتميان للتقليد التوحيدي الإبراهيمي. لكن العجرفة لا تفارق الدولة العبرية إذ لو فطنت إلى أنها سمت الاتفاق بأبراهام وليس إبراهيم لعرفت أنها لازالت بعيدة كل البعد عن الاندماج في الوسط العربي. ولكن المهم ليس هنا.
الخطر الداهم، الذي يَتَحَسَّسُهُ بعض قادة إسرائيل ومثقفيها ورجال مخابراتها وعسكرييها ورجال أعمالها، نابع من كون القبة الأمريكية الواقية في طريقها للانهيار أو التلاشي. لا نعلم بالضبط متى بدأت الحكاية، لكنها تبلورت وبدت للعيان مع انسحاب قوات “المارينز“ من أفغانستان بطريقة مُدِلَّةٍ. كيف تم ذلك؟ ومن هي القوات الخفية التي أنزلت الضربة القاضية عليها؟ نقول هذا على اعتبار أن قوات طالبان ليست إلا كومبارس في سيرك لا نعرف من يتلاعب بخيوطه .لكن بعد فشل أمريكا وحلفائها في المنطقة في تفكيك سوريا والقضاء على نظامها السياسي وإنهاء الحرب في اليمن كان من المتوقع أن تنهار منظومة الدفاع الأمريكية في تلك المنطقة الخطرة من العالم .ولم يمض وقت طويل على انسحاب أمريكا حتى بدأت بوادر رحيلها النهائي عن المنطقة تظهر بجلاء. فالقوة العظمى (أو هكذا تريد أن تظهر للعالم) التي لم تستطع الصمود أمام مسلحين غير منظمين (أو هكذا كان يقدمهم الإعلام الغربي) وبأسلحة غالبا بدائية ومن صنع محلي، هل تستطيع حماية منطقة غنية مستقرة كمنطقة الخليج؟ لم نعثر إبانها على جواب على هذا السؤال، لكن الأحداث المتلاحقة بعد الانسحاب وإشعال حرب أوكرانيا جعلت بإمكاننا العثور على بعض من ملامح التفسير. أليس من الغريب أن يتنقل الرئيس الأمريكي إلى الرياض لمقابلة ولي العهد السعودي والتودد له لكي يرفع من إنتاج النفط؟ ليس هذا فحسب، بل الأغرب هو أن الأمير السعودي الشاب رفض الطلب وأجاب على أنه ملتزم مع “أوبك“، يعني مع روسيا. وسوف يتضح التقارب الروسي السعودي على المستوى الاستراتيجي عندما اتضح أن روسيا تدخلت لدى السعودية لمساعدة سوريا على العودة إلى الصف العربي.
ولكن وكما في الحلم، ظهرت في يوم عاشر مارس 2023 على شاشات تليفزيونات العالم صورة كان من المستحيل تصديقها. إنها عودة العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. كانت الصورة تظهر المسؤلان السعودي والإيراني يتوسطهما الوسيط الصيني. لم يكن الوسيط الصيني إلا عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وبجانبه رئيس مكتب اللجنة المركزية للشؤون الخارجية .للتدقيق فقط، أن الراعي الحقيقي ليست الدولة الصينية وإنما الحزب الشيوعي الصيني. ثلاث إيديولوجيات متباينة (السنة، الشيعة والشيوعية) تجمعها المصلحة الاقتصادية والخروج من الهيمنة الأمريكية. وفي تعليقه على الإعلان السعودي الإيراني، قال مسؤول إسرائيلي إن «الاتفاق بين السعودية وإيران يعد فشلا تاما وخطيرا للسياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية». واعتبر أنه يشكل «انهيارا لجدار الدفاع الإقليمي الذي بدأت إسرائيل ببنائه ضد إيران»، ولعله يعني ما تسميه إسرائيل ب“اتفاقات أبراهام“ .من جانبه، علق مسؤول آخر قائلا: «إن تجديد العلاقات بين السعودية وإيران يعد تطورا خطيرا بالنسبة لإسرائيل وانتصارا سياسيا بالنسبة لإيران». بمعنى آخر أنه يكفي أن تدخل باكستان تحت القبة الصينية لتصبح المنطقة بالكامل تابعة لمحور الصين/روسيا الصاعد على المستويين الاقتصادي والعسكري وحتى الثقافي، على اعتبار أن أهم الثقافات القديمة تتواجد في الحوض الذي يمتد من الصين إلى البحر المحيط من الجانب الإفريقي ومن جنوب القارة الإفريقية والآسيوية إلى شمال روسيا… يمكن اعتبار أن الصين وضعت حدودا حقيقة على الأرض تمتد من بحر الصين إلى البحر الأحمر، وأن ما يدور في أوكرانيا اليوم غير بعيد عن هذا التقسيم العالمي الجديد الذي لم يكتمل بعد. بمعنى آخر يمكن اعتبار إفريقيا جارة للصين، وذلك ربما هو ما جعل أمريكا تشعل النار في السودان وتدفع بأثيوبيا إلى اختلاق مشكلة سد النيل الأزرق. أين المغرب من كل هذا؟ خصوصا أن صحافة ما بدأت تشير إليه بالبنان وتشي بأنه انخرط في مربع أمريكا.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير