منذ حوالي شهر تقريبا تم توجيه الدعوة للمغاربة للمشاركة في صلاة الاستسقاء، استدرارا لرحمة السماء علها تجود بالغيث بعد طول انتظار. وهو ما يعبر في العمق عن تخوف حقيقي من موسم فلاحي أعجف، قد يزيد من المتاعب الاقتصادية للحكومة. وبقطع النظر عن من يسبق هل التوقعات المطرية أم الدعوة لصلاة الاستسقاء، فإن مجرد الاستعانة ببركة السماء يشي بعجز في تدبير عقلاني يؤمن أقوات الناس ويضمن معاشهم.
يسارع وزير في الحكومة الحالية إلى التشكيك في تحليلات وتوقعات المندوبية السامية للتخطيط، فبعد أن جاءت أرقام مندوبية الحليمي مزعجة لحكومة بنكيران، اعتبرها محمد الوفا، الوزير المكلف بالحكامة، بأنها لا تضر بالحكومة ورئيسها فقط ولكن بمصلحة البلاد ككل، مصنفا إياها في دائرة “المناهج الاقتصادية التي تنتمي إلى العصور الوسطى”. فهل في ظل اقتصاد يعتمد على مؤشرات لا يمكن التحكم في أي واحد منها بدءا بالمناخ وانتهاء بسعر البترول مرورا بقيمة الدولار وسعر الفوسفاط وتحويلات المهاجرين وعدد السياح يمكن أن نقطع الشك باليقين في توقعاتنا الاقتصادية؟
مبدئيا يصنف المغرب، وبشكل نمطي، في خانة البلدان الفلاحية. ويعني هذا أن فترة الحماية الفرنسية كانت مجرد قوس سرعان ما أغلق، فهو كان بلدا فلاحيا، ولكن تهدده المجاعات وتعصف بديموغرافيته قبل الاستعمار، وعاد بلدا فلاحيا بعد ذلك غير قادر على إنتاج ما يحقق اكتفاءه الذاتي. وبين الفترتين، عاش نوعا من التدبير في المجال الفلاحي الموسوم بالبحث عن الصيغة المثلى لتحقيق التوازن المنشود.
حاول ليوطي، الذي حل بمغرب يريد أن يحيي فيه نموذج مخزن روما القديم من الحبوب، أن يجعل الفلاحة المغربية مكملة لنظيرتها في فرنسا، معتمدة على القمح بالأساس، لتغذية فيالق جنود الاحتلال، من جهة وتموين فرنسا في الحرب العالمية الأولى من جهة ثانية. ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929، وأثبتت فشل هذا الاختيار، بعد أن صار القمح المغربي يصل للأسواق الفرنسية بسعر مرتفع عن نظيره الفرنسي، فنهجت باريس سياسة جمركية أدت إلى إفلاس العديد من المعمرين. وانتبهت إدارة الحماية إلى ضرورة مراجعة هذا النهج، فقررت إرسال بعثة من الخبراء والمهندسين الزراعيين مع مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي إلى ولاية كاليفورنيا الأمريكية لاقتباس تجربتها الفلاحية، في عملية أسماها الباحث الأمريكي ويل سويرنجن بأول عملية تجسس فلاحي في العالم. وجاء تقرير هذه البعثة المعنون بـ”من لوس أنجلس إلى الرباط”، واضعا خارطة طرق جديدة للفلاحة المغربية تقوم على تنويع المحصول وعدم التركيز فقط على الحبوب، وخاصة إدخال البواكر والحوامض، وتبني خيار المجالات المسقية، وطرح مشروع بعيد المدى يروم سقي مليون هكتار في أفق سنة 2000. فتوالى تشييد السدود، وتولدت عنها مجموعة من المدارات المسقية. وكانت النتيجة الانتقال بالمغرب من مليون هكتار كأراضي محروثة سنة 1911 إلى خمسة ملايين هكتار سنة 1955، مليون منها استفاد من الري والعصرنة. لكن الأهم، هو الانتقال من منطق إرضاء المعمرين، والخضوع للوبي الذي شكلوه للضغط على ليوطي مع بداية الحماية، إلى منطق البحث عن شكل من التدخل لإدارة الحماية في تدبير الشأن الفلاحي بالمغرب، سواء مع تقرير جاك بيرك المرفوع إلى المقيم العام نوكيس في نهاية الثلاثينات، المحذر من مغبة الإفراط في استغلال المغاربة، ودفعهم للارتماء بشكل آلي في أحضان الحركة الوطنية، أو مع مقال معبر للخبير الزراعي الشهير، إميل مييج، سنة 1946 والذي طرح فيه سؤال الأولوية بالنسبة للفلاحة المغربية هل هي جلب العملة الصعبة من خلال صادرات الفلاحة العصرية؟ أم ضمان “الأمن الغذائي” لأبناء المغاربة حتى لا يحملوا ما قد يحيق بهم من مجاعة بسلطات الحماية فيتحولون إلى وقود ثورة تقودها الحركة الوطنية المغربية؟ وتم التوجه نحو خيار التوازن، هكذا استمرت زراعة الحبوب هي المهيمنة طيلة فترة الحماية بما يفوق 90% ، وظهرت زراعات عصرية معدة للتصدير.
جاء الاستقلال، وتم استرجاع أراضي المعمرين على مراحل طيلة 17 سنة، وانطلق مسلسل الارتجال، فبعد مشروع الحرث بالجرار الذي دشنه الملك الراحل محمد الخامس في خريف 1957 والذي غطى في مرحلة أولى ما بين 100.000 و150.000 هكتار وانتقل الرقم في السنة الموالية إلى 300.000 هكتار في سهول الغرب والشاوية ودكالة، تم التخلي نهائيا عن هذا المشروع سنة 1963. ثم جرى إفراغ مشروع الإصلاح الزراعي المتضمن في البرنامج الاقتصادي لحكومة عبد لله إبراهيم من محتواه، ولم ينفع لا مكتب الري ولا شعار سياسة السدود، ولا شركتي التنمية والتدبير الفلاحي (صوديا وسوجيطا) في الحيلولة دون تحول المغرب إلى بلد فلاحي يعاني العجز الدائم في توفير أمنه الغذائي. انطلق مخطط المغرب الأخضر بطموحات كبيرة، لكن في ظل إكراهات كثيرة. فهل يعاد طرح سؤال مييج بعد حوالي سبعين سنة عن أية فلاحة لأية تغذية؟ وهل يستقيم الحديث عن عائدات البواكر والحوامض من العملة الصعبة بغض النظر عن ثمنها في السوق المحلية وكلفتها على مستوى استنزاف الفرشة المائية؟ وإلى متى ستستمر أعناق الفلاحين مشرئبة للسماء منتظرة الغيث، ويستمر معها رهان الحكومات على رطوبة المناخ لإنقاذ مواسمها الاقتصادية؟
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير