«أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألاّ يحدث ذلك كلّه»… وللأسف «حدث ذلك كلّه» وكنّا نحن الجيل الذي شهد على ما حدث. قبل أن يتحول الوطن إلى جرح غائر نتكتم عليه في زاوية قصية من قلوبنا، كنت قد تعرفت عليه خلال العيد الوطني: كان مكتوبا بخط كبير على لافتة بيضاء تداعبها الريح، وبجوارها ارتفعت الكثير من الرايات الحمراء التي تتوسطها نجوم خضراء (سوف أتعلم مبكرا رسم النجمة الخماسية ثم أحفرها بالفرجار على خشب طاولتي في درس التربية الوطنية). كان أبي يقول إن “مقدم الحومة” فرض على “الشّلح” صاحب الدكان تعليق الراية… أمّا إدارة المدرسة فقد أوقفت الدراسة وزجّت بنا في حافلات عمومية مهترئة، ثم طلب منا الوقوف على جوانب الطريق لنضم صوتنا لصوت الحشود التي كانت تصرخ «عاش الملك». الوطن في طفولتي كان لافتة وعلم أو فلكلورا وحشودا… عطشا.
مع تقدمنا في العمر وفي الوعي وفي الغضب، سيصبح للوطن معنى آخر: سندرك أنّ الوطن «هو ألا يحدث ذلك»، الوطن هو ألا يحدث الظلم والفقر والخوف والاستبداد. لكنّ الوطن كان أيضا هوية، والهويات كانت وما تزال قاتلة، الهوية وجدان يتجاوز العقل والمنطق، ينغلق حتّى يتحول إلى نعرة مضحكة وينفتح لدرجةالتماس معدم الانتماء.كان هناك دائما وطن رسمي ووطن غير رسمي. الوطن الرسمي كان يوجد في القنوات التلفزيونية والإذاعات والكتب المدرسية والخطب واللافتات. أمّا الوطن غير الرسمي، فكان فكرة نحلم بأن تتحقق على الأرض يوما ما. أتذكر كيف كنا نصفي حسابنا مع الوطن الرسمي الذي كان له وجه بشع ارتبط بالاعتقالات وسياسة الريع وأشكال الإفلات من العقاب… أتذكر كيف كنّا نسمي أنفسنا «مواطنين من هذا العالم» ننتمي للإنسانية جمعاء، كان لسان ألمنا يقول: «إذا كان هذا هو الوطن الذي تقترحونه علينا فهو لا يخصّنا»، لكن الوطن ينجح دائما في أن يطفو على السطح بسبب صغير وتافه كمباراة في كرة القدم أو بسبب كبير ومرعب كوباء كوفيد 19. كورونا حركت الوجدان والهوية، وجعلتنا بكل أطيافنا ننتبه إلى المشترك وإلى حقيقة أننا جميعا وبلا استثناء مغاربة. ماذا يعني أن نكون مغاربة؟ ماذا يعني أن ننتمي جميعنا لمكان وزمان وتاريخ واحد؟ماذا يعني أن نحمل هذا الوطن تحت جلدنا أينما حللنا وارتحلنا؟
تقول النكتة الشعبية إنّه خلال عيد العرش رفعت الأعلام كالعادة مع اللافتات والألواح الضوئية حيث كتب شعار المملكة «لله، الوطن، الملك» ثم حدث أن انطفأ مصباح كلمة الملك… فهرع شيخ الحارة إلى التقني المكلف يصرخ فيه: «حيد البولة للوطن وديرها للملك».
الوطن يا صفية هو أن يظل مصباح الوطن مضاء وألا يجرؤ أحد على إطفائه.
لطيفة باقة
كاتبة وشاعرة