يعتقد محمد بوكبوط، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب سايس فاس، أن التعريب ظاهرة مثاقفة وتفاعل شهدتها كثير من المناطق التي شملتها الحضارة العربية الإسلامية. وقال بوكبوط، في حوار، مع “زمان”، إن اعتناق المغاربة للإسلام، عقب الفتوحات وتدفق الهجرات العربية، حتم أن تنتشر العربية في الأوساط الأمازيغية.
كيف يقرأ الأستاذ بوكبوط كمؤرخ مسار التعريب الذي شهده المغرب على مراحل وعبر آليات ووسائل مختلفة؟
بداية، أعتقد أنه تنبغي الإشارة إلى مستويين في مقاربة هذا الموضوع، الأول إيديولوجي سياسي والثاني علمي تاريخي. ورغم تداخلهما على غرار كل موضوعات العلوم الإنسانية، فإن التناول العلمي الرزين يفرض عدم انزياح أي تناول له إلى المساجلة والجدال العقيمين. فالتعريب ظاهرة مثاقفة وتفاعل شهدتها كثير من المناطق التي شملتها الحضارة العربية الإسلامية ومن بينها المغرب بطبيعة الحال، بحكم اعتناق أهله للإسلام عقب الفتوحات وتدفق الهجرات العربية من المشرق إلى بلاد المغرب كما هو معلوم، فكان من الحتمي أن تنتشر العربية في الأوساط الأمازيغية وتتأثر اللغة الأمازيغية بالعربية كما تأثرت العربية بالأمازيغية لتفرز الدارجة المغربية. ودون الخوض في مسار التعريب ومراحله، يكفي القول في هذا الباب إن كثيرا من القبائل وأهل الحواضر المغربية تعربوا كليا أو جزئيا عبر مراحل تاريخية طويلة، بفعل اختلاطهم بعناصر عربية وما رافق ذلك من تصاهر وتمازج أو انصهار. ولا شك أن قرائن عديدة لغوية تقوم شاهدة على ذلك في كثير من جهات المغرب.
أما بخصوص الوسائل والآليات، فأعتقد أنها تختلف بين التعريب التلقائي التي يتم في خضم التطورات التاريخية دون أن ينتبه المعنيون به حتى، والتعريب كما قد يُفهم اليوم ممثلا في إرادة مُمنهجة وسياسة مقصودة لنشر اللغة العربية في أوساط الأمازيغ. فلم يرد على حد علمي في حوليات التاريخ أن سلطة ما سعت إلى ذلك، إذ ظل الأمازيغ في مجالاتهم الجغرافية يتحدثون لغتهم ولا يحتكون بالعربية إلا في الحقل الديني الذي اقتصر على فِعل بعض الفقهاء و”الطُّلْبة” الذين يؤمون بهم الصلاة ويعلمون الصبية القرآن دون أن يتم “تعريبهم” على مستوي لغة التخاطب اليومية، فضلا عن عناصر النخب الأمازيغية التي سعت ذاتيا إلى تعلم العربية طلبا للعلم في حد ذاته أو بحثا عن الرقي الاجتماعي، وذلك بشد الرحلة إلى الحواضر المعرّبة أو في الزوايا المنتشرة في المجالات الأمازيغية.
يبقى الجانب الإشكالي لمسألة “التعريب” والذي لا يزال يسيل كثيرا من المداد وينتصب بحدة كلما أثير الموضوع، ويتعلق بمدى وجود خلفية أو سياسة ممنهجة لتعريب الأمازيغ خصوصا منذ الاستقلال إلى دسترة الأمازيغية والاعتراف بها مكونا أساسيا للهوية المغربية. هنا لا مناص من الإقرار أن المدرسة الوطنية وبرامجها ومنطلقاتها الإيديولوجية كانت آلية ووسيلة في تسريع وثائر “التعريب” منذ الاستقلال، انطلاقا من عدم استحضارها مطلقا وجود مغاربة لا يتكلمون العربية في حياتهم اليومية وكان من حقهم على بناة دولة الاستقلال إقرار حقها في الوجود كلغة حاملة لثقافة جزء لا يستهان به من الشعب كافح من أجل الاستقلال. غير أن المدرسة لم تكن الوسيلة الوحيدة مع ذلك. فقد تبدلت أحوال المغرب والمغاربة خلال فترة الحماية وما بعدها، إذ تطورت وسائل المواصلات والإتصال مما ساهم بفعالية في تنقل البشر وانفتاحهم على مجالات قلما ارتادوها فيما مضى، فكان من البديهي أن “يتعَرّبوا” ولو جزئيا وفق متطلبات العمل والتبادل والتصاهر وغير ذلك من ضرورات الحياة، أي باختصار الخضوع لآليات التثاقف والتفاعل التي تتم بين المجموعات البشرية المتساكنة في كل زمان ومكان. وأختم بالقول إن بقاء الأمازيغية لغة للتخاطب وناقلة لثقافة مغربية أصيلة منذ عصور غابرة يقوم دليلا على صمود أهلها أمام “التعريب” سواء كان تلقائيا أو مُمنهجا، وهو على كل حال عامل إثراء وقوة للهوية المغربية المتعددة والمتوحدة.
هل يمكن أن نتحدث عن نوع من المثاقفة بين الناطقين باللغتين العربية والأمازيغية؟ وهل يمكن اعتبار الدارجة المغربية إفرازا وحصيلة لهذا الاحتكاك والتفاعل؟
أكيد، وكما سبق أن أشرت، لا يمكن فهم الدارجة المغربية دون استحضار تاريخ طويل من المثاقفة بين الأمازيغة والعربية، بل من الضروري إضافة العبرية وغيرها من اللغات التي احتك بها المغاربة منذ القدم.
فالدارجة المغربية نتاج لتمازج وتفاعل عجيب للأمازيغة بالعربية مع اقتباس من لغات أخرى كما قلنا. ولعل أكبر دليل على ذلك أن المعجم اللغوي للدارجة لا يمكن إدراكه دون استحضار هذه الحقيقة، كما أن التركيب النحوي للجُمل في الدارجة انعكاس لهذا التفاعل بين اللغتين. وأود الإشارة هنا إلى إنجاز بحوث أكاديمية من مستوى عال في هذا الباب يمكن الرجوع إليها لمزيد من الإطلاع، بما يسهم في رفع اللبس عن هذه المسألة وتعريف الجمهور العريض بحقائق لغوية وثقافية يجهلها الكثيرون.
حاوره محمد ياسر الهلالي
تتمة الحوار تجدونها في العدد 1 من مجلتكم «زمان»