تحكم المخزن في إغناء فئات من المحظوظين من خلال تمتيعهم برخص امتيازية للتجارة الخارجية، مقابل خدمة مصالحه السياسية. هذا النظام الريعي سوف يتطور ويتمأسس خلال الحماية، ليتضخم أكثر خلال عهد الحسن الثاني ويصبح أسلوبا في الحكم، رغم كلفته الاقتصادية الكبيرة.
هوت ثورة الدباغين في فاس سنة 1873 بمحمد بن المدني بنيس إلى الحضيض. الانتفاضة التي قادها الدباغون والتحق بها حرفيون آخرون وتجار وعلماء المدينة استهدفت أملاك هذا الرجل الذي كان يحتل مكانة أساسية في النظام السياسي الاقتصادي بفاس من خلال منصبه أمينا للأمناء (المسؤول على تحصيل الجبايات). عن طريقه تتزود خزائن السلطان بأموال الضرائب التي يستخلصها من تجار وحرفيي المدينة، أواخر عهد السلطان العلوي محمد الرابع بالغ بنيس في زيادة قيمة تلك الضرائب، فانتهى الأمر بالسكان للثورة عليه.
تزامنت الانتفاضة مع انتقال الملك إلى سلطان جديد هو الحسن الأول، فتحولت إلى أزمة سياسية جوهرها اشتراط مبايعة السلطان الجديد بخفض قيمة الضرائب التي فرضها بنيس. غير أن الحسن الأول نجح في إنهاء الثورة وإخضاع المدينة بالقوة. في المقابل عمل السلطان على إعفاء محمد بن المدني بنيس من منصبه لتهدئة النفوس. لكن ما لم يعلمه سكان فاس يومها أن بنيس سيتلقى تعويضا ريعيا عن فقدان منصبه ونهب منزله.
فقد أمر الحسن الأول بتمتيع محمد بن المدني بنيس بـ”رخصة” لتصدير القطاني إلى الخارج عبر موانئ الدار البيضاء والجديدة وآسفي. مراسلات بنيس وحاجب السلطان المحفوظة ضمن أرشيف الوثائق الملكية، حول هذا الموضوع، بمثابة نموذج تطبيقي لنظام الريع كما اعتمده المخزن للإغناء قبل فترة الحماية.
إن كان السلطان أعفى بنيس من منصبه لكي يهدأ غضب الثوار، فإنه سرعان ما كافأه نظير خدماته التي أسداها للمخزن، أو ربما لمجرد أنه جزء من الأسر المشكلة للمخزن. ولكي تكون المكافأة مجزية اختار الحسن الأول تمتيع بنيس برخصة ريعية تضمن له أسباب الثراء. فمجال المنافسة في اقتصاد الريع ضيق بالضرورة لأن المستفيدين منه قلة من الحاصلين على امتياز يمنحه السلطان.
كما أن كلفة الاستثمار ضعيفة، فكل ما كان مطلوبا من بنيس أن يشتري القطاني ويصدرها إلى الخارج. حتى أن السلطان أعفى بنيس من الرسوم الجمركية التي يجب عليها أن يؤديها لخزينة الدولة مقابل استفادته من عائدات تجارته. ولم يعد المعني بالأمر مطالبا سوى بأداء نصف تلك الرسوم إلى اسبانيا، إذ صار الاسبان يستفيدون من نصف الرسوم الجمركية المفروضة على التجارة الخارجية للمغرب بموجب الوضع الجديد الذي فرضته هزيمة المغرب أمامهم في معركة تطوان سنة 1860.
والظاهر أن حجم الامتيازات الضخمة التي يوفرها نظام الريع للمستفيدين منه يولد نوعا من الانتهازية والطمع اللامحدود. انتدب بنيس تاجرين من أصدقائه هما الطيب بن كيران ومحمد بن عبد الجليل لينوبا عنه في مباشرة استغلال الرخصة. وكما أن كثيرا من مالكي رخص الريع اليوم يكتفون بكرائها لمن يستغلها فعلا مقابل تعويض مالي معلوم، حاول التاجران بيع الرخصة لتجار أجانب مقابل مبلغ مالي، لولا أن السلطان أمر بنيس في النهاية بعدم بيع الرخصة واستغلالها بنفسه.
مروان الجزولي
تتمة المقال تجدونها في العدد 2 من مجلتكم «زمان»