تعددت وتنوعت الوسائل التي اعتمدها المخزن، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كلما أراد أن يغدق في العطاء على أحد رعاياه، في وقت لم يعدم فيه سبل نزع هذه النعمة.
في زمن كان يعتمد فيه نظام الاحتكارات في مجال التجارة، عمد المخزن إلى صيغة عقود الاختصاص، التي عرفت بـ”الكونطرادات” لفائدة بعض التجار، فَعَلاَ شأنهم وتضاعفت ثروتهم. كما منح رخصا للوسق في بعض المواد لصنف آخر من المنعم عليهم فشكلت أداة لتضخم ثرواتهم، فيما جرى تمكين الأشراف أو المقربين من المخزن من ظهائر للتوقير والاحترام، شكلت صكوكا لجلب الثروة والوجاهة معا.
في مقابل كل هذا، كان المخزن لا يتوانى في سحب البساط من تحت ذوي الجاه والثروة كلما طال سخطه وغضبه أحدهم، فينتهي على المستوى الشخصي فقيرا معدما، وتمتد تداعيات هذا الإجراء لتطال اقتصاد البلاد برمته. ذلك أن هاجس الخوف من التتريك والمصادرة والإفقار كرس نزوعين سلبيين لدى أصحاب الثروات، تمثل الأول في نهج أسلوب الاكتناز عوض الاستثمار، وتجلى الثاني في التحاق عدد مهم من التجار وملاك الأراضي بصفوف الحماية القنصلية، فضاعت على البلاد فرصة استثمار أموال طائلة طمرت تحت الأرض خوفا من مصادرتها، وفقد المخزن جزءا مهما من “نخبته الاقتصادية”.
الإغناء بـ”الكونطرادة”
في البداية لابد من الإشارة إلى أننا نتحدث عن نمط في التدبير الاقتصادي تنعدم فيه المفاهيم والآليات الحالية في الإدارة الاقتصادية من تخطيط وميزانية ومخططات… إذ كان بيت المال يعني خزينة البلاد وخزينة السلطان في نفس الوقت، لذلك كان المخزن يسعى لتنويع المداخيل ضمانا لوفرة الموارد المالية المسعفة في تدبير أمور البلاد. فلجأ إلى نظام الاحتكارات السلطانية في مجال التجارة، التي أتاحت للمخزن موردا ماليا مهما عمل على تدبيره بواسطة عقود (contrats) تمنح لتجار لوسق منتوج معين مقابل قدر من المال يدفعونه لخزينة الدولة، إما دفعة واحدة ، وغالبا يقسم على أشطر، مع تحديد الميناء الذي يتاجرون منه. فقد ربط السلطان عبد الرحمان بن هشام (1822-1859) بين التجارة والجباية وغيرها من المداخيل لتوفير المال. وشرح أسباب الاحتكار الذي طبقه منذ السنة الأولى من توليته في إحدى رسائله لاحقا بالقول “وبعد، فقد ضعف أمر الجباية داخل المراسي، وانقطع مال المصالحة، وأحدثنا جيش النظام لاتفاق الخاصة والعامة، ولابد من داخل يكون له راتب ذلك، ويتوفر لبيت المال ما يكون بصدد المصالح وأخذ الأهبة والاستعداد، ولم نرد التضييق على التجار بطلب السلف، فاعتمدنا على الشرع العزيز، ورأينا اختصاص بيت المال بجلب السكر والحديد وبيعه، مع زيادة لا تضر في ثمن كليهما، واخترنا لذلك القونصو الحاج الرزيني من غير مشاركة أحد، ونجعل أمناء في مراسينا السعيدة ترضى أمانتهم يتولون قبول ذلك وبيعه لمن أراد بالسوم الذي نجعله له”.
الطيب بياض
تتمة المقال تجدونها في العدد 2 من مجلتكم «زمان»