للسلطة وسائل مادية تمكنها من ممارسة سلطانها، وسائل تمكنها من إخضاع أولئك الذين فوضوا لها تسيير أمرهم .من بين هذه الوسائل، الأدوات القمعية على وجه الخصوص. ولكن السلطة لا تُمارَسُ بهذه الوسائل فقط. فإلى جانب هذه، هناك المال والتشريع والموارد البشرية، كل هذا يسهم في إرساء السلطة. فالدولة الحديثة بنيت على أساس احتكارها للقوة (الجيش)، وتحصيل الضرائب والجهاز البيروقراطي.
ولكن للسلطة أيضا رموزا مادية وغير مادية، تعتمد عليها لضمان استمرارها. يتعرف مُواطن الدولة على هذه الرموز، وتمثل بالنسبة إليه حضورَ سلطة الدولة .رأيت ذات مرة، خلال زيارتي لموريتانيا، أن بعض رجال الشرطة يكتفون إما بلبس سروال الخدمة أو القبعة أو المعطف، ويكون هذا كافيا لكي يتعرف المواطن على حضور السلطة سواء في الحفاظ على السلم، أو في تنظيم حركة السير على الطرقات. لا يحتاج الشرطي إلى لبس كامل البذلة ليتعرف عليه المواطن. وعندما ينظر المواطن إلى الشرطي وهو يلبس البذلة، فإنه يفهم، ودون شعور منه، أن وراء ذلك الرمز جهازا متكاملا يتكون من إدارة وجيش وبوليس ومحكمة وعدل وحماية… لذا عندما يمتثل لأوامر رجل السلطة، فإنه يمتثل لدولة بكامل أركانها .السلطة هنا تحكم بقوة الرمز .فالشرطي بدون الرمز ليس شرطيا، والقاضي بدون عباءة ليس قاضيا، والجنرال بدون نياشين ليس جنرالا، وهكذا.
لكن وسائل السلطة ليست مادية فقط. فالخضوع للسلطة يبدأ من البيت، حيث العائلة مركبة على شكل جهاز يضمن للسلطة هيبتها من خلال التربية على قيم معينة .احترام سلطة الوالدين هو امتداد لاحترام سلطة الدولة. يقدم الوالدان خدمات مقابل ذلك، ومن المفروض أن تقدم الدولة خدمات مقابل احترام المواطن لهيبتها وسلطتها .السلطة تضمن الأمان والاستقرار، كما تضمن استمرار الحياة. المواطن يمتثل من خلال أداء الضرائب والحفاظ على أجهزة الدولة وممتلكاتها، وهذه الأخيرة تخطط وتفكر وتنفذ. هذه هي السلطة التقليدية.
لكن هذه السلطة بدأت بالتلاشي أمام العولمة وصعوبة التحكم في اقتصاد الدولة–الوطن. حَدَّ النظام العالمي الجديد من حضور سلطة الدولة، بحيث أصبحت تظهر بمظهر الضعيف الخاضع لقانون السوق الذي لا وجه ولا وطن له. بل إن حتى سلطة التفكير والتخطيط، التي كانت تدار بواسطة طبقة معينة من التقنيين والسياسيين وراء الستائر الحديدية لقصور الحكم، لم تعد موجودة اليوم. فحتى الدول الأكثر اعتزازا بتاريخها، أصبحت تضع مصيرها بين أيدي تقنيين ينتمون لمؤسسات ومراكز دراسات تسهر على صياغة المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى السياسية للدول والحكومات. تضع الدولة بين أيدي هؤلاء، ممن يسمون أنفسهم بالخبراء، جميع أسرارها حتى الاستراتيجية منها، وحتى تلك التي لا تفصح عنها لمواطنيها بين أيدي هؤلاء الذين ينتمون في غالب الأحيان لبلدان أجنبية قوية. هؤلاء الخبراء لا وطن لهم؛ وطنهم هو الرأسمال والربح، ولكن ولاءهم يبقى على كل حال لوطن الرأسمال ومهده أي الغرب وأمريكا على وجه الخصوص. هذا الجانب من السلطة التقليدية إذن آخِذٌ في التآكل. السلطة القوية التي تملك قوة التفكير، والتي تتميز بكونها أذكى من أولئك الذين تحكمهم، أصبحت اليوم في مهب الريح.
تحتكر السلطة وسائل الإخضاع ،(La contrainte) ولكنها كانت تحتكر أيضا، وإلى عهد قريب، وسائل الإخبار والتأطير الإيديولوجي في المدرسة وأماكن العبادة ووسائل التواصل .المعلم رمز المعرفة، والفقيه رمز المعرفة الدينية والتعبدية، والمذيع الذي يتحدث في جهاز الأخبار رمز الإحاطة بما يحدث. لكن ومرة أخرى بسبب العولمة، وما تبعها من تحول في مجال التواصل، أصبحت هذه الأجهزة الثلاث في وضعية لا تسمح لها باستقطاب الناس وخصوصا الشباب .يتابع الناس الأخبار، ويشاهدون المسلسلات، ويستمعون إلى الخطب الدينية، لكنهم يعودون بسرعة إلى ميادين النقاش في وسائل التواصل الاجتماعي، ليشككوا في كل ذلك، ويطرحون شروحات وتأويلات تذهب في كل الاتجاهات إلا الاتجاه الذي تريده السلطة.
لكن هناك ميادين دون غيرها أصبح فيها تلاشي السلطة واضحا للعيان. هناك ميدان الرياضة؛ قد لا ينتبه البعض إلى أن سلطة الشارع في هذا الميدان تنطوي على خطورة كبيرة. وكأن الجمهور (السواد الأعظم من الناس) أصبح يفتي ويطرد المدربين، ويفرض خططا على من يخاف على منصبه… وكأن الجمهور يفعل هذا فقط بدافع التمرن على أخذ زمام السلطة. وهو فعلا أخذها. هذه الحالة من أخذ السلطة، والتي لا هدف لها غير العملية في حد ذاتها، ظهرت أولا خلال مظاهرات العشرين من فبراير بالمغرب. كان الناس، وخصوصا أولئك الذين اعتبروا أنفسهم شبابا، يرفضون أن يتلقوا نصائح من الكهول .بل كانوا يرفضون حتى مشاركة الكهول، وكأن الاحتجاج كان مسجلا باسمهم، أو كأن حالة المغرب لم تكن تعني إلا الشباب. تحول هذا التصرف إلى ميادين عدة منها الفكر والتعليم والدين، ولكنه تجلى بشكل دراماتيكي في ميدان الرياضة، وخصوصا كرة القدم نظرا لشعبيتها ولكثافة جمهورها. أصبح الجمهور يتمرن على الإطاحة بالمدربين، حتى ولو كانت نتائجهم إيجابية .الخطر كل الخطر هو في اتباع هذه الأهواء ومساندتها أو التسامح معها فكريا.
يبدو أن القيم التي كانت تحكم العلاقات تفتت أو هي في طريقها للتلاشي. لم تعد للرموز قوة كما كانت في الماضي .والخوف هو أن يصبح فهم السلطة من طرف الجمهور يتلخص فقط في وسائل الإكراه أي القمع .عندها نعلم أن على الدولة أن تعيد طرح مفهوم التعاقد للنقاش قبل فوات الأوان.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير