مع إعلان وكالات الأنباء عن وفاة شخصية مشهورة أو اسم لامع في أي مجال إبداعي، إلا وتداعى العالم كله للحديث عن آثاره وإنتاجاته وما قدمه للبشرية من منجزات. مات نيلسون مانديلا فتحدث الناس عن نضاله ومحنه وتضحياته من أجل تخليص وطنه من نظام الأبارتايد العنصري. ومات ستيفن هوكينغ فتذكر الجميع عبقريته ونظرياته وما قدمه للإنسان مع كل معاناته وعجزه الحركي. ومات أرماندو دييغو مارادونا فلا حديث إلا عن أسطورية الرجل، وعن إبداعاته النادرة فوق مستطيل كرة القدم، وعن لحظات المتعة التي أسعد بها الملايين من متابعي اللعبة الأولى في العالم، وعن شخصيته الثائرة ضد الفيفا والإمبريالية المتوحشة وكل أنواع الحيف والاستعلاء.
يقع هذا في العالم كله، إلا في مجتمعاتنا الإسلامية، مع وفاة أي شخصية غير مسلمة إلا ويتفجر النقاش على مواقع التواصل الاجتماعي إن كان يجوز للمسلم الترحم عليه أو لا يجوز، تذهب الأغلبية المدعومة بفتاوى الشيوخ وآراء الفقهاء إلى منع ذلك واعتباره أمرا منكرا، فرحمة لله جعلت حصرا للمسلمين، ولا نصيب فيها لمن لم يمت على الإسلام، مهما قدم للإنسانية أو ساهم في تطويرها، فيما تذهب قلة قليلة إلى أن رحمة لله فعلا وسعت كل شيء، وأن مفاتيح الجنة أو النار ليست بيد أحد، وأن كل البشر يستحقون دعاء الرحمة، فكيف بمن قدم للناس ما يذكرونه به من آثار صالحة وأعمال مفيدة.
يحزنني جدا أن يطرح مثل هذا النقاش في بيئة مغربية، نشأ مثل هذا الجدل في مشرق العالم الإسلامي، وكان طبيعيا بحكم كثرة الطوائف والمذاهب والفرق، وما كان بينها من حروب كلامية، وبحكم ما شهدته المنطقة من حروب دينية، فيما كان للمغرب خصائصه ومعاركه وتحدياته المختلفة.
صحيح أن علاقة المغاربة بالأخر لم تكن دوما وردية ولا مريحة، ليس لأسباب دينية، وإنما لأسباب وجودية محضة، بسبب ما تعرضت له هذه البقعة دوما من أطماع قادمة من الشمال أحيانا، ومن الشرق أحيانا أخرى، وبسبب اختلاف أعراقه وإثنياته مع ما يزرع ذلك من خوف وترقب، مع كونه معبرا هاما للقوافل، فضلا على أنه في فترات كبرى من تاريخه لم تكن هناك سلطة مسيطرة، وعاش المغاربة زمن “السيبة“، بكل ما ينتجه مثل هذا الوضع من توجس وخوف من ذلك الآخر.
رغم ذلك كله، تمكن المغاربة من تجاوز كثير من هذه الإكراهات، وأبانوا عن كثير من السلمية والرغبة في التعايش مع الآخر، قبل أن تغزونا الإيديولوجيات الدينية القادمة من الشرق، والتي استغلت هذا التوجس الطبيعي والوجودي، لتطعمه بمفاهيم دينية متعصبة، ترى أن المسلمين هم خير أمة بين الأمم، حتى ولو كانوا من أكثرها تخلفا وانحطاطا، وأنهم وحدهم من يستحق الفوز والنجاة والجنة، وأن من سواهم على باطل وفي النار حتى لو اخترع الكهرباء و الطائرة والأنترنت وفيسبوك الذي يكتب عليه فتاواه وأحكامه، فكان من نتائج ذلك أن تلطخ وعينا الجماعي بمثل هذه الأفكار المستوردة، وصارت أدعيتنا للمسلمين فقط، «لله يحفظنا وجميع المسلمين»، «لله يرحم ليك الوالدين ولجميع المسلمين»، «لله يرحم موتانا وجميع موتى المسلمين»، في الوقت الذي ندعي فيه أيضا أننا أمة التسامح والتعايش وقبول الآخر، في تناقض صارخ بين الوعي واللاوعي.
لا أريد الدخول في نقاشات فقهية، ولا للحديث عما يستدل به هؤلاء المضيقون لرحمة لله بقوله تعالى: «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم»، فالآية في الاستغفار لا في الترحم، و“ال“ للمشركين عهدية تتحدث عن قوم معينين، ولا أحد تبين أن هوكينغ أو مارادونا من أهل الجحيم، لكن ما أريد الإشارة إليه، وما لا يفهمه أولئك المضيقون لرحمة لله، هو أن الترحم على هوكينغ أو مارادونا لا يعني بتاتا حاجته إلى رحمتهم، ولا أن دعاءهم هو الذي سينقذه من النار ويدخله الجنة، بقدر ما يعبر ذلك عن عنف دفين يختزن نفوسهم، لهذا تجد هذه الأغلبية صعوبات جمة في التعايش والاندماج داخل مجتمعات غير مسلمة.
كل هذا يرفع علينا تحدي إعادة بناء الشخصية المغربية، بما يضمن توازنها النفسي والفكري، ويمنحها حرية القرار والاختيار والتعبير، وبما يزرع فيها قيم السلام والتعايش والإنسانية، حينذاك سنقضي على هذه الخصومة مع الذات، والتي تتسابق للحصول على جرعة من لقاح كافر لكورونا، فيما تلعن وتأبى الترحم على مخترعه.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي