إنني أدرك لوْعتك شارلي، منذ الجريمة النكراء التي أصابتك، وأصابت من ثمة كل جزء من بلدك، بل من العالم. لقد شاطرتك مصابك، وقمت بواجب العزاء. قمت بذلك لأن لا شيء يسيغ المساس بالحياة أو يثلم الحق فيها. لا شيء. للحياة قدسية تتوارى أمامها كل الاعتبارات وكل الدعاوى، سواء أكان مصدرها دينيا أو إيديولوجيا.
أنا أعرف أنه يصعب في حالات مثل هذه أن يفكر الناس في هدوء، و أن يُعملوا عقلهم ليميزوا بين الأمور. الغضب يُعمي، ومن الحكمة ترك الأمور إلى أن ينجلي الغضب. أذكر غداة 11 شتنبر أن صدح رئيس أمريكا، من ليس معنا فهو ضدنا. أفهم ذلك، ولو أني لا أميل له.
كنتَ في حالة غضب، وأردتَ أن تعبر عن غضبك برسم صور لنبي المسلمين عليه السلام. اعتبرتَ أن ذلك يدخل ضمن حرية التعبير والرأي التي أدى أجدادك ثمنها غاليا، منذ فولتير. تناسل عن ذلك رد فعل قوي من المسلمين في بقاع العالم، من النيجر إلى كراتشي، ومن الجزائر إلى الشيشان مرورا بالبيضاء. كان مما استرعى اهتمامي شعار رُفع في كراتشي، باللغة الإنجليزية، إن كنتَ أنت شارلي، فأنا كواشي.
وهذا الذي أرفضه، هذا التجاذب عوض ما يفرضه التفكير من تمييز.
أنا معك في مأساتك، ولكني لستُ شارلي، ولستُ طبعا كواشي. لا أشاطر دعوتك في الهزء بقيم الناس ومقدساتهم. اسمعني جيدا، ولو أني أحدثك من لغة هي حاجز بيننا، ولا أدري إن سيتسنى لك أن تطلع على ما بذاتي، وإن تعذر ذلك، فسيكون حديثا فيما بيننا نحن من هم في الضفة الأخرى، ليس جغرافيا، بل حضاريا. إن الحق في الحياة هو أسمى الحقوق وأقدسها. لا أجادل في ذلك، ولا أدعو إلى استحلال دم، بأي دعوى كانت، ولست أحتاج أن أؤوِّل النصوص، يكفيني روحها تلك التي تدعو إلى تكريم بني آدم، وتلك التي تقول بأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، أو تلك التي وردت في الوصايا العشر، ثم يكفيني عقلي وإيماني بقيم كونية.
الحق في الحياة هو أسمى الحقوق، ولكن هناك حقا ينبغي أن تدركه شارلي، هو حرية الناس في الإيمان بمعتقداتهم، أو إن تشأ، احترام المقدس، ولو كنتَ لا تؤمن به. لا يجوز الهُزء بمعتقدات الناس، وهذه المعتقدات يمكن أن تكون دينية، ويمكن أن تكون مدنية، مثل تبجيل الشعوب للحظات من تاريخها وتقديسها لرموز منها وشخصيات لها أيادي بيضاء عليها. وقد تذهب الأمم إلى سن قوانين من أجل ذلك. أليس يعاقب من يشكك في المحرقة أو يثير النقاش حولها؟يبغي أن تدرك أن للشعوب وللأمم الحق في أن تقدس ما تريد، ومن واجبنا أن نحترم ذلك. في الأمم الأنجلوساكسونية هناك تجريم ما يسمى دعوة الكراهية بالقانون.
ينبغي أن تفكر في ذلك. حرية التعبير لا تتوارى أمام احترام المقدس. حرية التعبير، أو الحرية بالمطلق ليست فوضى، بل هي منذ كتابات ستيوارت ميل Stuart Mill الذي أفرد لقيمة الحرية كتابا مرجعيا، أدعوك أن تعيد قراءته، ونص إعلان حقوق الإنسان والمواطن، محددة بالقانون. ثم إن حريتك من الناحية المبدئية تنتهي حينما تبدأ حقوق الآخرين. تنتهي حريتك، شارلي، حينما يبدأ حق الناس في الإيمان بما يشاؤون، وإحاطته بالقدسية، ورفض الزراية به.
قد تعيب علي أن مجتمعاتنا تغط في سراديب التقاليد، وترفض الفكر الحر. أشاطرك الرأي. نعم نحن في حاجة إلى جرعة من التفكير الحر، وهذا الذي يقوم به مفكرون وكتاب وصحافيون وفنانون وناشطون حقوقيون ويؤدون من أجل ذلك ثمنا غاليا، ومن الطبيعي أن يصطدم ذلك مع ما تواتر من تقاليد، وربما ما تخفيه المصالح، ولكن ذلك لا يمكن أن يتم من دون ضوابط، ومن دون أخلاقية. ولست على يقين بأن أسلوبك هو ما سيدفع إلى رفع الحِجْر عن العقل ويمهد للتفكير الحر، بل لعله أن يؤدي إلى عكس ذلك تماما، إلى التشنج والتعصب والحقد والعداوة والبغضاء.
إنني لم أكن لأجرأ إلى الحديث إليك لو لم أكتو كذلك بنار الكراهية والحقد. كنت أريدك أن تندد بما حاق بواحد من مواطني مقيم بفرنسا، محمد المعقولي، الذي اغتاله فرنسي شر قتلة وهو يسب معتقداته، ويغرز فيه مدية سكينه، ثم لم يكفه ذاك حتى بتر سبابته وهو يُشهّد.
أليس دم اليهودي الذي يسري في عروقه كدم أي إنسان مثلما يقول شكسبير في تاجر البندقية؟ ما منعك ألا تندد بما حاق بالمعقولي، ولمِ لم يخرج أحد يقول: «أنا المعقولي»؟ هل كرامة المعقولي، وما يرمز إليه، لأنه أضحى منذ اليوم رمزا، أقل من كرامة أي مواطن فرنسي آخر غير مسلم؟ يحق لي أن أتساءل وقد رأيت تجاهلك له، ليس وحدك للأسف الشديد، بل تنكر مواطنيه من بلده الأصلي، بلدي.
مؤسف أن أقول شيئا، هو أن استشهاد المعقولي حرّرني لكي أتحدث إليك بلا عقدة. إنني منذ اليوم أشترك وإياك في الحزن، ولذلك ينبغي أن نفكر في هدوء، من أجل ألا يتكرر ما وقع.
ليست المسألة تحديد المسؤولية والتجني على أي كان، ولكن الحديث في هدوء واحترام، حتى لا يتكرر ما وقع.
هذا الذي أبتغي. إن تاريخنا المشترك هو تاريخ فرص ضائعة، وأحلام مجهضة. وما أزال أؤمن بإمكانية مد الجسور بيننا، طالما عمّ الاحترام المتبادل بيننا.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير