ليست الصناعة هنا من التصنيع، ولكن من الصياغة، وهي لغةً الإتقان والتربية. مهمة الفاعل السياسي ليس أن يُحدث عن الواقع وإكراهاته، أو أن يشحذ سلاحه في وجه خصومه، ويتسقط زلاتهم. السياسي الحق، هو الذي في ظل واقع كابي يزرع الأمل من دون أن يقفز على الواقع، وإلا سقط في الشعبوية. هو بتعبير بسيط من يصنع الأمل. هو تمرين صعب ودقيق لأن الإغراق في الواقعية يفضي إلى السوداوية. وما نحتاجه، في ظل ما نعيشه اليوم، عوض لغة الأرقام جرعة الأمل. لأن الأمل وحده ما سيجعلنا نرفع بصرنا من تحت أقدامنا كي ينصرف إلى الفضاء الفسيح. هو ما يستحثنا، عوض الاستسلام، أو الانتظارية. والانتظارية أسوأ من الاستسلام.
والأمل ممكن، ومصدر هذا الأمل هو القوى الحية لبلادنا، وهي تطفح بالكفاءات، وهي تطرح الأسئلة الدقيقة والعميقة، ويستحثها طموح لبلدها، وهي تعي الإكراهات القائمة، وتدرك المؤهلات المتاحة.
هو ذا الإحساس الذي انتابني في لقاء نظمته جمعية شبابية لجامعة شتوية. كان هناك تحرُّق كي تستعيد السياسة وهجها، وتبرأ مما شابها من ميوعة وانزلاق حتى عزف الناس عنها. كان مما تردد أن السياسة لا يمكن أن تنفصل عن مرجعية ثقافية، وأنهما متوازيان يغني الواحد الآخر، وكان مما تردد ضرورة أن يضطلع من هو في الصدارة السياسية أو الثقافية بدور القدوة، فالسياسة تربية، ومدار التربية، أن يكون المربي قدوة. وكان مما تردد، والتعبير ليس لي، ثورة ثقافية، تعيد النظر في كثير من المفاهيم السائدة، والقيم المعتادة، فيما ساد من زراية بالآخر، والنظر الدونية لشرائح من المجتمع، وفي نفس المنظور ركز متدخل من أسرة التعليم، من الأقاليم الجنوبية، على ضرورة الانكباب على التعليم من بوابة المعلم، ورد الاعتبار له. كانت القاعة باردة، وفجأة ملأها الدفء، بفعل النقاش الصريح والمثمر، في غير إسفاف ولا ابتذال. تحولت من حالة إلى أخرى، بفعل حالة نفسية. وكان عنوان تلك الحالة: الوعي السياسي.
دور السياسي أن يزرع الأمل، ويرصد ما يموج في المجتمع ويواكب حركيته. يأتي دور المثقف مكملا أو سابقا على الأصح، لكنه يشتغل بمنطق آخر غير منطق السياسي، هو الحس النقدي. يعري على الأشياء كي تبدو كما هي، بلا زيف أو طلاء. غايته لا أن يزرع اليأس، بل يظهر الحقيقة. يقف على مواطن الخلل ومواضع القوة. هو، بنحو من الأنحاء، كاسح ألغام.
لا أحد من شأنه أن يجادل في أن يقترن دور السياسي بزرع الأمل، وينصرف دور المثقف إلى إظهار الحقيقة، لكن ليس كل سياسي يمكنه أن يزرع الأمل. كي يزرع السياسي الأمل ينبغي أن يحظى بمصداقية. الأمل ليس خطابا، ولكنه سلوك، وهي أشياء تستشعرها الجماهير بحاسة سادسة.
أما الثقافة فلا يمكنها أن تضطلع بدورها من دون بنيات، وأولاها الجامعة. أن تكون الجامعة فضاء للبحث الرصين، والأعمال الجادة، وأن تُوفَّر لها الإمكانات لذلك، وأن تقوم بها قواعد سارية، وألا يختزل دورها في الامتحانات ومنح الشهادات، والأهم أن يتم الإقرار بحرية التعبير وحرية الفكر، بلا تضييق، ولا تخوين، ولا تهويل.
التربية الحق تبدأ من هنا. في إعادة الاعتبار للفعل السياسي، بلا وصاية، ولا تقزيم، أو تحجيم، وفي إعادة الاعتبار للثقافة، من دون إزراء بمن يطرحون الأسئلة الحقيقية، وتعقبهم والتضييق عليهم.
حينها ستذوي الأعشاب الطفيلية، و يونع الأمل…
من هنا نبدأ إذن. أو كما كان عميد الأدب العربي طه حسين يردد: من عرف الغاية عرف الوسيلة.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير