ينقل دانييل ريفي، في كتابه المشهور “ليوطي ومؤسسة الحماية الفرنسية بالمغرب”، مقولة الماريشال التي تلخص مجمل سياساته في المملكة، «لم أتمكن حتى الآن من إحكام القبضة على المغرب، إلا بفضل سياستي الإسلامية. إني متأكد من جدواها، وأطلب بإلحاح ألا يفسد علي أحد لعبتي». لخص ليوطي، بهذه العبارة، أهم أداة وظفها لإحكام قبضته، وهي توظيف الدين والمظاهر الإسلامية لاستمالة قلوب المغاربة، وخصوصا النخبة الدينية التي كان يسعى لاستدراجها في الدعاية للمشروع الاستعماري، وفي حشد الدعم لفرنسا وحلفائها لمواجهة ألمانيا وحلفائها العثمانيين المسلمين.
كان ليوطي يعتقد أن التجربة الجزائرية غير قابلة للاستنساخ بالمغرب، وأن سياسة المراعاة أنجع أثرا من محاولات الضم الكلي. هكذا، أصدر أوامره بضرورة التوقير والاحترام تجاه كل ما يتعلق بـ”الأهالي”، من ديانتهم، وعاداتهم المحلية، ومؤسسات حكمهم، ومؤسساتهم الاجتماعية التقليدية٬ من قضاء وأحباس وتعليم، حتى «لا يشعروا بأنهم يعيشون مع الوجود الفرنسي». وهكذا، عارض، أيضا، بشدة إنشاء إدارة بالشؤون الإسلامية تابعة للحكومة الفرنسية، ودافع بشراسة عن تعدد الزوجات، وذهب إلى أنه «يمثل إلى مدى بعيد عماد التنظيم العائلي في المغرب»، بل اعتبر اقتراح إعلان الزواج الأحادي الشكل القانوني الوحيد تحديا للعادات الاجتماعية والدينية، «وإهانة حقيقية للسلطان أولا، وكذلك للنخبة ولعموم المغاربة»، وأمر بتوقير المساجد والزوايا ومقابر المسلمين، وعدم إخضاعها لمقتضيات ظهير نزع الملكية. بل أن ليوطي أصدر قوانين فيها من التشدد ما قد لا تجده حتى في أحكام الشريعة بمعناها التقليدي، كمنعه لغير المسلمين من دخول المساجد، مع أن أي مطالع للسيرة النبوية يعلم أن المشركين كانوا ينزلون بالمسجد النبوي، وأن المناظرات مع غير المسلمين كانت تعقد في رحابه.
كما كان متشددا، كذلك، في تعامله مع حملات التبشير، خصوصا بعد قضية بن عبد الجليل، فتدخل بنفسه لمنع نشاط جماعة “غوسبيل ميسيون”، وهو ما لقي استحسانا من النخبة الدينية.
ومن ذلك أيضا -وهوما يعنيني بالأساس- أن كثيرا من القوانين التي ما زالت سارية باسم الدفاع عن الهوية الإسلامية، كان ليوطي هو واضعها، فهو من منع المسلمين من شرب الخمر، وجعل بيعها خاصا بالأجانب، وتشدد في ذلك لدرجة توبيخ أحد المقدمين بمنطقة تمحضيت بسبب سماحه بوضعه لوحات إشهارية للخمور بسوق أسبوعي.
كما أن قانون منع الإفطار العلني في رمضان لم يعرفه المغاربة باعتباره حكما إسلاميا أو قانونا فقهيا، فلا تتحدث كتب الفقه بكل مذاهبه عن أي عقوبة بدنية للمفطر، وإنما كل الحديث عن أنواع الكفارات ومقادير الفدية، وكان ليوطي خلف تعديل هذا القانون سنة 1933، وكان موجها بالأساس للمعمرين الفرنسيين…
نتيجة كل هذا، أن ليوطي كان ناجحا في سياسته، وتمكن من استقطاب جزء مهم من المغاربة، سواء وسط العلماء كما كان حال أبي شعيب الدكالي وابن المواز، وحال كثير من المشايخ والفقهاء الذين توافدوا على قصره حين سمعوا بمرضه، وقرؤوا “اللطيف” متضرعين إلى لله بأن يشافيه، أو عند عموم الناس الذين كان كثير منهم يرون أن ليوطي رجل مسلم يكتم إيمانه، وكان بعضهم يلقبه بـ”الحاج ليوطي”، لكن كثيرا من تلك القوانين، التي لم يكن هدفها “بيضة الإسلام” ولا “الذود عن شريعة الرحمان”، ما تزال تحكمنا اليوم.
الغريب عندي في الموضوع أن من يدافعون عن هذه القوانين يعقدون في الواقع تحالفا تاريخيا مع الماريشال، وليست لديهم الشجاعة الكافية للمطالبة بالقوانين التقليدية كالجلد والرجم… لذا هم يختبئون خلف قوانين وضعها المستعمر، وينافحون عنها بعبارات عقدية غليظة…
المشكل الأكبر، برأيي، أن كثيرا من دفاع البعض عن تلك القوانين ليس له من غرض إلا شهوة التحكم في المجتمع، وإرهاب المخالفين باسم القانون الجنائي، فيما لا نسمع لهم صوتا حين تقذف “المحصنات” كل يوم، وحين يقال بأن بعض المدافعات عن حريات الفرد لم يجدن للجنس طريقا حلالا ولا حراما. أخاف أن يكون سبب ذلك هو أن جزءا من التهييج على المخالف يقوم على النعت بالدعارة و”الديوثية” وغيرها من الأوصاف الطاعنة في الأعراض.
ما أومن به حقا، هو أن المجتمع يصنع قوانينه بنفسه، حسب حاجاته ومصالحه، وأنه ليس بحاجة إلى ليوطي ولا غيره ليعبر عنه، وأن القيم المتوافق عليها هي من تؤطر هذه القوانين، وأن اليوم الذي تعجز فيه هذه التشريعات عن التعبير عن المجتمع سيتخلى عنها، وحين يكون الإصرار على تنزيلها تتحول إلى قوانين ظالمة يسعى المجتمع لـ”الاحتيال” عليها بكل الوسائل، كما يقع اليوم بالضبط مع قوانين “شيخ الإسلام” ليوطي.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي