عاش عبد الرفيع جواهري حيوات متعددة، إن جاز القول. فهو شاعر ومثقف، مناضل سياسي، إعلامي إذاعي، وكاتب صحافي اشتهر على الخصوص ببراعته في جنس السخرية السياسية، فضلا عن اشتغاله بالمحاماة، ونشاطه في ميدان حقوق الإنسان. تجربة فريدة لمثقف شاهد على مرحلة معينة من تاريخ العمل الإعلامي في الإذاعة الوطنية، مساهما في ازدهار وألق الأغنية المغربية العصرية رفقة نخبة من روادها البارزين، فضلا عن اتصاله الميداني بالنضال السياسي منذ توليه مسؤولية الكتابة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مراكش… في ما يلي شذرات من ذاكرة جواهري، في هذه الفضاءات المختلفة، ما بين دروب فاس والقرويين، وأروقة الإذاعة الوطنية، وكواليس الإبداعات الغنائية، وساحات العمل السياسي.
صادف ميلادك وجود والدك في السجن لمشاركته في مظاهرة مؤيدة لوثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944. وكأن وسطك الأسري جعلك منذ البداية منفتحا على العمل السياسي الوطني، ماذا تذكر عن نشأتك في فاس؟
لم تكن مظاهرة واحدة، بل عدة مظاهرات شملت عددا من المدن ومن بينها فاس.
وكما يحكي الزعيم علال الفاسي، في كتابه القيم «الحركات الاستقلالية في المغرب العربي»، فإن المظاهرات انطلقت في فاس بتاريخ 31 يناير 1944 واستشهد في هذا اليوم ستون وطنيا وجرح نحو المائة وتم سجن ألفي شخص، وقطعت إدارة الحماية الفرنسية التيار الكهربائي والماء عن مدينة فاس. كان من بين المعتقلين والدي المرحوم الحاج إدريس جواهري، الذي كان أمين مال حزب الاستقلال في حينا، كما تم القبض على العلامة محمد بن عبد الرحمان العراقي الذي كان منتميا لحزب الشورى والاستقلال، وكان هذا العالم الوطني يسكن بجوار منزلنا في درب اللمطي بحومة الصفاح، حسب ما رواه لي والدي رحمه لله. أثناء اعتقال والدي على إثر مظاهرات فاس، حملتني والدتي رحمها لله – كما حكت لي- إلى سجن عين قادوس وأنا في الأسابيع الأولى لولادتي لزيارته قصد أن يراني أنا ابنه البكر. وبالرجوع إلى وسطي الأسري فقد كان مكوا من أسرة كانت كلها تنتمي إلى حزب الاستقلال: والدي كما أسلفت القول كان مسؤولا حزبيا في حينا، جدي للأم الحاج إدريس المريني، كان من كبار النقاشين على الجبس وكان أيضا استقلاليا، ووالدتي فاطمة المريني استقلالية كذلك وتحمل بطاقة الحزب وأدت اليمين على المصحف. عندما بلغت سن التمدرس، أدخلني والدي رحمه لله إلى مدرسة توجد في حينا اسمها مدرسة التهذيب وهي إحدى المدارس الحرة التي أنشأها الوطنيون، وكان مديرها هو الفقيه إدريس المدغري وهو بطبيعة الحال استقلالي. أحرزت على الشهادة الابتدائية في يونيو 1956، وكنت ضمن أول فوج نال هذه الشهادة بعد رجوع الملك محمد الخامس من المنفى وإعلان استقلال المغرب. كانت الاجتماعات الأسبوعية للمناضلين الاستقلاليين في حينا تنعقد في منزلنا، وكان والدي يكلفني بقراءة النشرة التي تصلنا من مقر الحزب وتقريب محتوياتها من المجتمعين الذين كانوا في عمومهم من الصناع التقليديين والتجار الصغار. هكذا انغمست مبكرا في العمل الحزبي.
حاوره إسماعيل بلاوعلي
تتمة الملف تجدونها في العدد 43 من مجلتكم «زمان»