من منا لم يتصفح الجرائد يوما دون أن يقصد صفحة “الكلمات المسهمة” ويحاول تحدي حلها. لكن الذي لا يتذكره الكثيرون أن أول من ابتكرها رجل يكنى “أبو سلمى”، منذ ثمانيات القرن الماضي، قبل أن تقلده باقي الجرائد داخل المغرب وفي الدول العربية. لكن الفريد في شبكات عبد القادر وساط عن غيره، هو أسلوبه في نسج كلمات ومعاني تجعل القارئ تملؤ محياه دائما الابتسامة والمتعة. الرجل يعمل طبيبا نفسانيا، لكن درايته باللغة والشعر العربي الفصيح أوقعت آلاف العشاق في شبكاته. في هذا الحوار، يكشف “أبو سلمى” عن تجربته الأولى في “المحرر” منذ أيام عمر بن جلون”، وعن بداياته الأولى مع “الكلمات المتقاطعة والمسهمة” في “الاتحاد الاشتراكي”، وكيف زاوج بين عمله الطبي وبين عالم الكتابة والشعر والأدب.
كيف كانت بداية العلاقة باللغة العربية؟
يعود ذلك إلى زمن بعيد، إلى زمن الطفولة الأولى. كنا نعيش في قرية نائية وهادئة جدا، اسمها “لمزِيندة” بنواحي اليوسفية. كان عمري أربع سنوات وبضعة أشهر، وكنت أتوجه كل يوم، في الفجر، إلى الكتاب على القدمين. كانت ترافقني ابنة عمتي، التي تكبرني بعشر سنوات، وكنا نصل دائما قبل الآخرين، وعندما نصل تعود هي من حيث أتت، وتتركني أمام باب الكتاب. كنت أبقى هناك وحيدا وخائفا ومرتبكا، في الظلام والبرد، أنتظر وصول باقي الصبية، وأشعر بحنين شديد إلى أمي، مع أني فارقتها قبل نصف ساعة فحسب!
في ذلك الكتاب، كان الفقيه، رحمه لله، يتولى تعليمنا حروف الهجاء، بهمة وصرامة. كان يكتب لنا الحروف، بخطه الواضح، بقلم الرصاص، على لوح خشبي، وهو ما يسمى بالعامية المغربية (التحناش). وكنا نحن الأطفال نعيد كتابة تلك الحروف بأقلام من قصب، وبمداد نسميه (السمخ). ورغم الظروف الصعبة، فإن ولعي باللغة العربية يعود إلى تلك الفترة من عمري بالذات.
ينبغي الإقرار بأن والدي، رحمه لله، كان له دور كبير في هذا الولع باللغة. هو لم يكن يعرف القراءة والكتابة، لكنه كان عاشقا للكتب، بشكل لا يصدق. أذكر، مثلا، أنه كان يشتري بانتظام أعداد مجلة (البينة) -التي كان يصدرها علال الفاسي، فيما أحسب- وكان يحافظ على تلك الأعداد في البيت، ريثما يكبر أطفاله ويصبحون قادرين على القراءة! وكان يحرص كذلك على شراء بعض كتب النحو، مثل ألفية ابن مالك، ونظم الآجرومية للشنقيطي. لم أكد أتعلم القراءة والكتابة، حتى وجدت نفسي مضطرا لحفظهما معا، بالموازاة مع حفظ القرآن، شأني في ذلك شأن باقي الأطفال. وكيفما كان الحال، ففي تلك الفترة من حياتي توطدت علاقتي بهذه اللغة الجميلة، التي هي اللغة العربية.
وماذا عن عالم الصحافة؟ كيف دخلته، وكيف كانت التجربة؟
الحق أني دخلت عالم الصحافة من باب الشعر. أذكر ذات يوم بعيد من شهر نونبر 1975، التقيت في ساحة السراغنة، بالبيضاء، صديقا لي يدرس بكلية الحقوق، وكنت أنا في السنة الأولى بكلية الطب. فاجأني ذلك الصديق حين أخبرني أنه قرأ قصيدة لي بعنوان “الدار البيضاء”، بجريدة المحرر، قبل حوالي أسبوع! كنت بالفعل قد أرسلت قصيدتي تلك للجريدة عن طريق البريد، لكن فاتني أن أطلع عليها منشورة! شعرت بفرح غامر، لأن قصيدتي نشرت، وأحسست في الوقت نفسه، بأسى عميق، لأنني لم أستمتع برؤيتها منشورة على صفحات المحرر. كان “الحل” الوحيد أمامي عندئذ، هو أن أتوجه فورا إلى مقر المحرر، بزنقة الجندي روش (زنقة الأمير عبدالقادر، حاليا) لأطلب من إدارة الجريدة أن تمدني بالأعداد العشرة الأخيرة، ما دامت قصيدتي توجد حتما في واحد منها.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الملف تجدونها في العدد 73 من مجلتكم «زمان»، نونبر 2019