خلف علال الفاسي، الزعيم الوطني، تراثا غنيا من الكتابات والخطب في ميادين النضال السياسي الذي استغرق زمنا طويلا من حياته، كما في ميادين الفقه الإسلامي والشعر والفكر. بيد أنه لم يقدر له أن يترك مذكرات بالمعنى المتداول، وهو الذي لعب أدوارا طليعية في التاريخ الراهن لبلادنا، ومنعرجاته الأساسية. إذا كان في ما كتبه علال الفاسي مصدر من مصادر هذا التاريخ، فإن ذاكرة من عايشوه لا تقل أهمية في استجلاء بعض محطات مساره، ومن خلاله بعض التحولات السياسية البارزة. في هذا الصدد، تقترح عليكم “زمان” استنطاق جوانب من ذاكرة عبد الواحد الفاسي، نجل الزعيم الراحل، وبعض ما يمكن أن يكون قد بلغه أو فهمه من والده حول العناوين البارزة في مساره السياسي.
ماذا عرفت، من والدك، عن العناصر التي شكلت وعيه السياسي مبكرا منذ مراحل دراسته الأولى؟
لم أعرف منه مباشرة أشياء كثيرة عن هذه الفترة، إنما من الناس الذين كانوا حواليه، فهو لم يكن يحب الحديث عن نفسه. من المؤكد أن تأثير والده عبد الواحد في تكوينه كان أساسيا، وقد كان عالما وقاضيا، إضافة إلى تأثير القرويين وعلمائها بشكل عام. نعرف أن اهتماماته بالنضال السياسي الوطني واتصالاته في هذا السياق بدأت في سن مبكر، بدليل أنه اختير رئيسا لأول جمعية سياسية سرية أنشأها طلبة القرويين، وكان ما يزال تلميذا حينئذ، وذلك نظرا لما ظهر عليه من مواهب الخطابة والبلاغة والشعر…في رأيي، كان العنصر الأهم يتمثل في ربط محاربة الاستعمار بالدين، من منطلق أن الاستعمار جاء ليقضي على الإسلام. هذه الفكرة لعبت دورا أساسيا في انطلاق الحركة وانتشارها واقتناع الناس بها، وقد ظهر هذا جليا في قضية الظهير البربري كما هو معروف، وكانت هذه أول مناسبة يعتقل فيها علال الفاسي سنة 1930. يظهر كذلك في استغلال التاريخ الإسلامي لتعبئة الناس وتحفيزهم على مواجهة الاستعمار، في الدروس الليلية التي كان يلقيها الوالد في بدايات الحركة، موازاة مع عمله الرسمي كمدرس في القرويين والمدرسة الناصرية. وقد كان إشعاع تلك الدروس متزايدا لدرجة جعلت السلطات الفرنسية تحاول منعها، واعتقل لفترة مع عدد من الوطنيين.
يبدو أن النخب المدينية، على وجه العموم، كأنما تقبلت فرض الحماية باعتباره أمرا ليس منه بد، وأنها يمكن أن تفتح فرصة لتحقيق الإصلاحات التي لم تتحقق بعد. ما الذي جعل علال الفاسي وأبناء جيله ينخرطون في التوجه المناهض للاستعمار؟
لا شك أن بعض الناس الذين كانت لديهم مصالح كبرى في مدينة فاس، مثلا، تقبلوا الأمر الواقع في البداية، لكنهم سرعان ما غيروا موقفهم وباتوا من المؤيدين والداعمين الأساسيين للحركة الوطنية. أظن أن الحافز الأساسي في هذا التحول يرتبط بالتأثير الحاسم لاستعمال الدين في محاربة الاستعمار. كل المبادرات التي اتخذت في هذا النطاق كانت تستند على الدين ليتقبلها جميع المغاربة. هذا، على الأقل، ما فهمته من بعض ما كان يشرحه الوالد وعدد من المناضلين الذين كانوا شهودا على هذه الفترة. بطبيعة الحال، كانت هذه الانطلاقة بفضل مجموعة متراصة من الوطنيين، رغم بعض الخلافات التي ظهرت لاحقا، والتي يمكن اعتبارها أمرا طبيعيا في مثل هذه السياقات.
حاوره إسماعيل بلاوعلي
تتمة الملف تجدونها في العدد 48 من مجلتكم «زمان»