أيام قليلة قبل صدور نسخة هذا الشهر من المجلة، ودع المغاربة بكل أسف وحسرة امرأة عظيمة، وشخصية استثنائية فريدة، يتعلق الأمر بالأم تيريزا في نسختها المغربية، والتي برأيي تجاوزت في عملها ورسالتها أغنيس بوجاكسيو المعروفة بالأم تيريزا أو إليانور روزفلت، فالأولى كان عملها متوجها للفقراء والمشردين والمدمنين، والثانية كان لعمال المناجم والأفارقة والأسيويين، وهو جهد عظيم ونبيل دون شك، إلا أنه يبقى محط ترحيب وحفاوة من الأغلبية، فيما أن المرحومة عائشة الشنا سخرت كل ما تملك لرعاية من حكم عليهم المجتمع بالعهر والخروج عن الدين ومخالفة الجماعة، وبمن رماهم الناس بـ“أبناء الزنا“ و“أولاد الحرام“ وعديمي الأصول، لذلك كان عملها برأيي أشد نبلا وأكثر إنسانية.
أعتقد بالمناسبة أن هذه المرأة العظيمة تستحق مني اليوم وقد رحلت عنا اعتذارا واضحا وصريحا، صحيح لم يسبق لي يوما أن هاجمت المرأة أو تحدثت عنها بسوء، لكنني أعتذر اليوم حتى مما انتابني من سوء الظن يوما ما عن عملها ومجال اشتغالها، أعتذر لها عن تصديقي وتقبلي لما قيل عنها، أستغرب اليوم كيف لعقولنا أن استوعبت يوما ما شيطنة امرأة حق لها أن تصنف مع ملائكة الخير والرحمة، بما أنقذته من آلاف النساء، وما وفرت لهن من دعم اجتماعي وصحي ونفسي، من أجل الاعتداد باستقلالهن وإدماجهن مع أطفالهن في المجتمع، متحدية كل البنيات الثقافية والدينية والمجتمعية، والتي ترى في هؤلاء النسوة “عاهرات“ مذنبات وجب عليهن لوحدهن تحمل نتائج ما ارتكبن من خطايا.
أعتذر اليوم للمرحومة لأنهم صوروا لنا ذات يوم، وابتلعنا الطعم للأسف الشديد، أنها تنشر الرذيلة والمنكر، وأنها تهدم أخلاق المجتمع، وأنها تفكك الأسر، وأنها تحارب القيم. كيف صدقنا أن هذه المرأة النبيلة والتي كانت تدافع وترافع عن حقوق المعذبات في الأرض، وتوفر لهن كل الدعم والمساندة والمتابعة، وتنقذ المجتمع من مصائب وكوارث وتبعات، أنها تمثل خطرا على الدين والقيم والمؤسسات الاجتماعية؟ لذا تستحق مني هذه السيدة اليوم، وقد آوت إلى مثواها الأخير، اعتذارا علنيا وصريحا عن كل هذه الظنون، وإن كنت أرى أنها تستحقه بشكل أكبر ممن كانوا سببا في نشر هذه التصورات والتمثلات وزرعها في عقول الشباب والناشئة.
كم أرى اليوم كم كنا سذجا حين لم نستوعب أن الشنا لم تكن تقدم فقط عملا خيريا وإحسانا تطوعيا، وإنما كانت تواجه عنفا ثقافيا وذكوريا يمس المرأة، حين يحملها تبعات عملية جنسية لم تكن تمارسها مع نفسها، وإنما مع شريك يقضي وطره ويلم سراويله ويمضي لحال سبيله، دون تحمل أي مسؤولية معنوية أو مادية.
لم نكن ندرك يومها أن الشنا تفضح ما نعانيه من ازدواجية في المعايير، وتحيز في الأحكام، وانفصام بين المظهر والمخبر، حين ننعت الأم العازبة بمختلف الوصوم، ونحملها كل المسؤولية، ونقذف بيتها بالحجارة، مع أننا نعلم يقينا أن تلك الأم لم ترزق بذلك الرضيع من السماء، ولا تكررت معه قصة المسيح عليه السلام، ولكنه ابن ذلك اللاعن نفسه، ومن مائه وظهره، في واحدة من أسوأ صور التخاصم مع الذات التي يعرفها المجتمع.
لذلك، أجدد اعتذاري مرة أخرى لهذه السيدة النبيلة، وأرجو لها الرحمة والمغفرة، وأتمنى أن يكون أجمل تأبين لها، هو أن يثمر نضالها عن الأم العازبة ما كانت تتمناه من تعديل القوانين المتعلقة بهؤلاء النسوة، وأن يحمل تحيين مدونة الأسرة القادم كما جاء في الخطاب الملكي، ما يثلج صدرها ويبهج قلبها، ولو كانت في الدار الأخرى، فلا يعقل في القرن الحادي والعشرين، أننا ما زلنا نرفض استعمال الحمض النووي لتحديد آباء الأطفال المتخلى عنهم، وأننا ما زلنا حبيسي أحكام تقليدية قديمة، يوم لم يكن العالم يعرف من وسيلة لإثبات النسب إلا الفراش، أعتقد أن إعادة النظر في هذه القوانين، هو أجمل تكريم لهذه المرأة بعد رحيلها..
عذرا مرة أخرى سيدتي، وليرحمكا لله ويغفر لك.
محمد عبد الوهاب رفيقي