للأمم أيام تتوقف عندها لتُخلّد أحداثها، وتستحضر ذكرياتها وتستخلص العبر منها. قد تختلف طبيعة تلك الأعياد، فتكون دينيةً، أو وطنيةً، أو عالمية. تتوقف، وقد تنصرف عن العمل، لا زهدا فيه، ولكن لأن الذكرى، والرسالة، والعبرة أهم من ذلك، بل قد تذهب تشريعات دينية لمنع العمل وتحريمه، كما عند التشريعات الموسوية، وكما يحدث يوم السبت. ولا معنى لتلك الاحتفالات إن تضاءلت ذكراها، واضمحلت أوِ امّحت، وإن هي تحولت إلى يوم عطالة لا غير. نحن أمة لها تاريخ عريق، يعرفه عنا الأجنبي، وندركه حدسا، ونردده آناء الليل وأطراف النهار. ليس لدينا يوم من أيامنا الوطنية يتجاوز قرنا من الزمن. أقدمها هو عيد العرش، الذي أرساه الوطنيون بتاريخ 18 نونبر 1934، ويليه 11 يناير 1944، الذي أعلنه المرحوم الحسن الثاني عيدا وطنيا في التسعينات باعتباره، مثلما قال، حدثا يهم المغاربة قاطبة، وليس فئة، أو حركة معينة… ليس لنا يوم نحتفل فيه بانتصاراتنا الكبرى أو هزائمنا المُرّة. جيراننا في الشمال يحتفلون بمعركة العُقاب لسنة 1212، ويحتفظون بلواء الحرب الذي غنموه من جيشنا آنذاك، ويخرجونه يوما في السنة في حفل مشهود، إلى الآن. جيراننا البرتغاليون، يقفون عند معركة واد المخازن، وتداعياتها لأنها وضعت حدا لوجود دولة البرتغال. وفي كل يوم من 25 من ديسمبر يحتفل ساكنة غرناطة من باب الرملة من حي البيازين باليوم الذي أخرجوا فيها إخوة لنا، وطردوهم شر طردة… لندعِ انتصاراتنا حتى لا نُتهم بالنزوع نحو التوسع، ولنتحدثْ عن هزائمنا، وهي جزء من تاريخنا، وصاغت وعينا…
هزيمة إسْلي (والصواب إسَلّي، أي الحصى بالأمازيغية )، ومَن يتوقف عندها، سوى المرحوم مولاي أحمد العلوي، الذي كان يُذكّر بتلك اللحظات في جريدة “لوماتان”. ولا أزال أذكر، وقد توقفت وشخصيةً بتطاون بزنقة مولاي العباس، القريبة من دار المخزن، عقب إحدى المناسبات الرسمية، وسألته عن صاحبها، فلم يُحر جوابا، ولم أكن أتوقع منه غير ذلك، وليس العيب عيبه، فذكرت له أنه ابن عم السلطان الذي قاد حرب تطاون سنة 1860/1859. وما أزال أذكر فتية ظلوا فاغرين أفواههم، حين قلت لهم إن الأسدين اللذين يزينان مبنى الكورتيس الاسباني، هما من فوهات مدافعنا التي غنمها الاسبان في حرب تطاون، وذوبوهما، وصاغوا منها رمزي القوة، في مبنى الشعب.. هل نلومهم؟ أم نلوم أنفسنا لأننا نجهل ذلك… وقل ذات الشيء عن مقاومات شعبنا ضد الاستعمار، ليس لنا يوم يخلد معركة أنوال، ولا الهري، ولا تازيزاوت ولا بوكافر…
أو يوم نحتفي فيه بتلك الملاحم كلها، يَذكُره النشء ويعيه، في المدرسة، أو من خلال وسائل الإعلام السمعية البصرية خاصة. أسوأ شيء أن تصبح أعيادنا الوطنية، أيام عطلة لا غير… وهل من الضروري أن نتخلف عن العمل في تلك الأيام… نعم هناك أيام لا يُستساغ أن لا يُحتفل فيها وتستلزم العطلة، ولكن هناك أياما أخرى نضر بالوطن إن نحن لم نشتغل…
18 نونبر لحظة مهمة، وهي تحيل لعيد العرش المرحوم الملك محمد الخامس، وكانت تصاحبها أيام ثلاثة، عيد العودة (أي عودة محمد الخامس بتاريخ 16 نونبر)، وعيد الانبعاث، وعيد العرش… كانت لحظة مهمة غداة الاستقلال. وهي لحظة مهمة للذكرى. سميت عيد الاستقلال، لأن الاستقلال اقترن عند الحركة الوطنية بعود السلطان إلى عرشه، كما كان يقال، ولكن هل تستوجب العطالة عن العمل؟ وإن كان من الضروري، فليكن بتاريخ 16 نونبر يوم عودة المرحوم الملك محمد الخامس.
لقد كان 3 مارس عيد جلوس المرحوم الحسن الثاني، ولم نعد نحتفل به، لأن عيد العرش يقترن بالجالس عليه وهو تاريخ 30 يوليوز، كما أننا لم نعد نحتفل في 9 يوليوز بعيد الشباب، ذكرى ميلاد الحسن الثاني.
وكان لنا عيد، يوم 23 ماي، نتخلف فيه عن العمل، لأنه يخلد الاستفتاء الذي تمت فيه مراجعة سن رشد ولي العهد… ولم نعد نحتفل بذلك اليوم. إذن هناك سوابق تم التخلي فيها عن الاحتفال أو العطالة في أيام وطنية. هل الوفاء للماهدين الذي صاغوا وثيقة الاستقلال، وهي نص بديع، وتعبير عن وعي ذكاء سياسي خارق، ألا نشتغل ذلك اليوم… فأي شيء نضيفه للوطن ولأنفسنا إن تخلفنا عن العمل في ذلك اليوم ولم نستخلص مغزاها ولا سياقها، ولا عرّفنا الناشئة متنها. هذا لُعَمْري لأفيد من أن نتخلف عن العمل في ذلك اليوم، دون أن تدرك الغالبية لِمَ تعطلت عن الشغل. واسترجاع إقليم واد الذهب محطة مهمة، أبلى فيها جيشنا البلاء الحسن، وأبان المرحوم الحسن الثاني عن حنكة وعزيمة، ولكن هل من المبرة ألا نشتغل في ذلك اليوم؟ الاحتفال واستخلاص العبرة، والبر بالتاريخ، ليس هو العطلة، والعطلة ليست مرادفة استخلاص العبرة أو الوفاء للتاريخ. ألا يسوغ أن نفكر في ذلك؟ وفي طريقة احتفالنا… يستحسن مثلا أن نتوقف خمس دقائق عن العمل أثناء الدوام، ونترحم على شهداء الوطن، ونستمع لرسالة يتلوها المدير أو مندوب، أو نجتمع في ساحة الإدارة أو المؤسسة، ونقدم إكليلا، أو نَلزم الصمت، أو ما شئنا، أو نقرأ الفاتحة، على أن نتخلف عن العمل، في بعض الأعياد الوطنية…
ولا بأس في أن تكون لنا أعياد نروم من خلالها الاعتراف بجوانب من ثقافتنا، والبر بشرائح من مجتمعنا، أو نعبر عن وعينا التاريخي، ولكن ليس من الضروري أن نتخلف عن العمل فيها. ولم نعرف عبر التاريخ أن المغاربة، وهو متشبثون بالسُّنة، أن تخلوا عن العمل وهم يستحضرون السيرة العطرة للرسول الكريم. وإن كان ولا بد أن يتعطلوا عن العمل، فليكن ليوم واحد، كما في فاتح محرم. وهل من الضروري، بعد التحولات العالمية، أن نتوقف عن العمل في فاتح ماي؟ كما لو أنه يسوغ أن تُنتهك حقوق العمال خلال السنة كلها، ويسمح للعمال أن يفرغوا غيظهم من خلال خطابات وشعارات ولافتات لسويعات وتعود الأمور لسابق أمرها.
أقول قولي، ولعله أن يكون مادة للنقاش.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير