لم يتردد وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، في التعبير صراحة عن إحساسه بالإهانة جراء إمعان ألمانيا في إذلال بلاده بسبب تراكم ديونها. واستحضر التاريخ لتذكير الألمان بماض قريب تجرعوا فيه نفس الكأس المُرًة التي تكرع منها بلاده حاليا.
ففي تصريح لإحدى القنوات الألمانية لم يتردد فاروفاكيس في القول: «أعتقد أنه من بين دول أوربا جميعا، ألمانيا تفهم هذه الرسالة أكثر من أي دولة أخرى. إذا أذللتم دولة ذات كرامة لفترة أطول من اللازم وأخضعتموها لقلق أزمة ديون دون ضوء في نهاية النفق، فإن الكيل سيفيض».
كان المسؤول اليوناني يغمز من نافذتي الحربين العالميتين الأولى والثانية، مذكرا الألمان بأن أسباب الحرب العالمية الثانية جرى استنباتها في مؤتمر فرساي سنة 1919 المهين لهم، والمحطم لاقتصادهم، والذي خلق من هتلر بطلا قوميا يعيد لهم الاعتبار والكرامة، ويرد إهانة الشروط المذلة في مؤتمر الصلح بعد الحرب العالمية الأولى. كما أن «المعجزة الاقتصادية الألمانية» ما كانت لتتحقق بعد الحرب العالمية الثانية لولا الانتقال من منطق الإهانة إلى منطق الاحتضان في التعامل مع «الضعفاء»، والذي تُرجم في شكل هدية قُدمت في لندن يوم 27 فبراير 1953، عبارة عن اتفاق وقعه عن الجانب الألماني هيرمان جوزيف أبس، نص على شطب نصف ديون بلاده.
لم يطالب المسؤول اليوناني، وهو يستحضر تاريخا أوربيا غير بعيد، سوى بالتعامل بالمثل، بينما كان يعتقد، إسوة بشريحة واسعة من الأوربيين، أن القطار الأوربي الذي تكونت أولى عرباته من اتفاق للصلب والفحم بين الغريمين التقليديين الألماني والفرنسي، لن ينتهي إلى وصفة انتقامية، شبيهة بما حصل مع ألمانيا الشرقية بعد سقوط جدار برلين، في شكل مخطط وضعه وزير مالية ألمانيا فلوفجانج شويبله لإنشاء ما عرف بصندوق تروهاند. وهو ما قاد عمليا إلى تركيع رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس، وقبوله على مضض لما كان قد رفضه في السابق، محمولا بسند شعبي، لم يُقرأ جيدا في زمن العولمة والنيو- ليبرالية.
تحت عنوان: «إلى أصدقائي الألمان» اختار المدير السابق لصندوق النقد الدولي، دومينيك ستراوس كان، توجيه رسالة في الموضوع، عبر حسابه على تويتر، محذرا من الابتهاج بنصر إيديولوجي على اليسار الراديكالي يكون ثمنه الوحدة الأوربية. سترواس كان لا ينتمي طبعا إلى حزب سيريزا، ولا يطلق الكلام على عواهنه، فهو خبير بشؤون المال ودهاليز السياسة. يخشى هذا الاقتصادي الفرنسي على أوربا التي بنت وحدتها على مراحل منذ اتفاق روما سنة 1957، وصولا إلى الاتحاد الأوربي، الممتد مجاليا والمهيكل تنظيميا والمشيد مؤسساتيا، من الانتصار لوحدة تراعي بالأساس مصالح دول الشمال فيه، بتوجه من «أصدقائه الألمان»، عاجزة عن الصمود في وجه الروس، وخانعة أمام الحليف الأمريكي. بين ليبرالية مخطط مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، الذي فتح الأفق أمام الألمان واليابانيين للانطلاق كعملاقين اقتصاديين، وليبرالية الترويكا المانحة لليونان جرت مياه كثيرة تحت جسر الاقتصاد العالمي، تحولت فيها دول وشعوب إلى حقول لتجارب الوصفات المقترحة من المؤسسات المالية الدولية، شعارها المركزي التقشف وتقليص تدخل الدولة لفائدة تكريس قيم اقتصاد السوق الذي لا يرحم.
تم تدشين هذا التحول في المغرب على مراحل، منذ زيارة بعثة البنك الدولي في ربيع سنة 1964، وبصمات نصائحها التي وجدت لها صدى في المخططات الاقتصادية منذ المخطط الثلاثي 65-67، إلى أن تحولت النصائح إلى شروط مفروضة للحصول على القروض خلال ثمانينات القرن الماضي مع برنامج التقويم الهيكلي. وبدأ تآكل السيادة يسير بوتيرة سريعة، بالتزامن مع تزايد تدخل المؤسسات المالية المانحة في توجيه الاقتصادي المغربي، فيما يشبه علاقة الأستاذ بالتلميذ. ترافق ذلك مع تراجع دور الدولة، وتخليها عن أداء جزء من أدوارها التقليدية، فاسحة المجال للقطاع الخاص والتدبير المفوض، بل حتى الجمعيات للقيام بوظائف كانت إلى عهد قريب من صميم عمل الدولة.
بعد انصرام زهاء ثلاثة عقود على تدشين الخشونة الواضحة في إملاءات المؤسسات المالية، ودفع المغرب، إسوة ببلدان أخرى اعتبرت كسولة وفي حاجة إلى موجه، إلى شد الحزام ونهج سياسة التقشف وتقليص النفقات الموجهة للقطاعات الاجتماعية، جاءت توجيهات الأستاذ بدورها مخيبة للآمال. إذ جرى الانتقال من السعي للحصول على القروض، وقبول تنقيط الأستاذ المانح، إلى البحث عن كسب رضاه وثقته للاستفادة من خط سيولته الائتماني. مما يعني مزيدا من الضغط والارتهان للخارج، والتخلي عن وظائف وخدمات طالما قامت بها الدولة لفائدة شرائح اجتماعية واسعة، بدعوى تخفيف أعباء الميزانية.
أناخت نتائج هذه التوجهات المفروضة زمن الليبرالية الشرسة بكلكلها على القدرة الشرائية ونمط عيش المغاربة، ولم تقدم في الاقتصاد سوى صورة مقلقة عن وضع هش، تعكسه تقارير بنك المغرب والمندوبية السامية للتخطيط. لذلك، فأوراش الإصلاح الحقيقية يجب أن تنبع من الداخل، حتى لا يعاد سيناريو مغرب ما قبل الاستعمار، حيث قاد إصلاح على المقاس الأجنبي إلى السقوط في مستنقع الاقتراض، ضاعت معه سيادة البلاد. أو نجد أنفسنا أمام صندوق عجيب، شبيه بـ«صندوق تروهاند»، يضعنا في المزاد. فتفادي الأسوأ، في انتظار الخروج من النفق في زمن الشراسة ولغة المصالح، يقتضي تأهيل الذات، لتعزيز قوتها التفاوضية مع الآخر سواء كان دائنا أو مستثمرا، فكلاهما يشحذ مخالبه دفاعا عن مصالحه، ولم لا إعادة إنتاج التبعية.