من أجل تسليط الضوء على سؤال أساسي كهذا، بطريقة خفيفة، لا يوجد أفضل من استدعاء الموسيقى، التي على ما يبدو، تلطف العادات، بما في ذلك العادات السياسية.
وتعتبر أغنية “لست أدري” لعبد الحليم حافظ – من كلمات الشاعر إيليا أبو ماضي وألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب – مناسِبة جدا لموضوعنا، حيث يغني الفنان المصري بصوته العذب والمشهور في جل الأقطار العربية: «جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت».
من أين أتينا؟ سؤال مقلق نطرحه على مرآة الرؤية الخلفية للتاريخ. سؤال ذاتي يشبه الغراء، يستوجب علينا طرحه على أنفسنا لنعرف موقعنا بالنسبة لماضينا، بقدر ما هو مترافق مع المؤشرات الحالية.
فهل نحن مجرد ورثة لما كان عليه أسلافنا، على مدى تاريخ طويل؟
على هذا النحو، من المؤكد أنه قد تمت صياغتنا مسبقًا، دون أي شكل آخر من التطور، ودون عناصر مضافة محتملة لعملية تفكيرنا وطريقة تواجدنا.
هذه الفرضية المخالفة لنظرية التطور، يدحضها مستشارنا العلمي “حسن أوريد”، في الملف الخاص بالنسخة الفرنسية لـ”زمان” (عدد 93-94). فهو يعتقد أن هذا السؤال بعيد كل البعد عن كونه “غير ضروري” أو “زائدا”، ولأسباب وجيهة، إذ يبعث على الدهشة، وكأنه تشكيك غير مقبول، بل ومستفز في ضوء معتقداتنا حول أصولنا الإثنية – الثقافية، والتي نعتبرها بمثابة ميزة خاصة نحملها بكل فخر. فبغض النظر عن المآل والاستعداد الذهني للمتلقي، لا يمكننا أن نتوقع منه موقفا ديكارتيا مبنيا على التفكير المدروس ورد الفعل العقلاني، بل سيكون موقفا تتحكم فيه العاطفة والاعتداد بالنفس.
وكلما واصلنا مناقشة هذا الموضوع، انتقلنا إلى مفاهيم أخرى أكثر إقصاء وأكثر خطورة في التعامل معها، كمفهوم الهوية المغربية أو “تامغرابيت” مثلا. ما هي “تامغرابيت” التي من شأنها أن توحدنا في ظل تعددنا التاريخي؟ نحن أمام مفهوم فضفاض، كل شخص يمكنه تأويله حسب قناعاته بخصوص انتمائه أو لون بشرته.
هنا يطفو على السطح، الثالوث: «لله، الوطن، الملك»، والذي هو بمثابة التعبير الصوتي عن من نحن، من خلال المقطع الأخير في النشيد الوطني. هكذا، تقرر الأمر في سنوات المواجهة مع السلطة الاستعمارية.
هذا لا يعني أن النقاش قد أُغْلِق أو انتهي. إذ يبقى أن نرى في أي سجل عقائدي، وفي أي لغة، وفي إطار أي تعبير ثقافي، سوف نعبر عما يوحدنا أكثر باعتباره حصيلة لتاريخنا.
في ظل إسلام سني مالكي مهيمن، كان هناك دائماً مكان لأقلية عبرانية علمانية وفاعلة. فالجانب الديني لم يمنع أبدا من التعايش. كما لم تكن المؤسسة الملكية عائقا لهذا التعايش، في إطار هذه المعادلة ذات الأبعاد الثلاثة: «الله، الوطن، الملك».
ويظل عنصر الوطن أساس الشعور بالانتماء إلى نفس المجتمع البشري. إذ ليس هناك ما هو أكثر صلابة من هذا الارتباط، والذي يفترض الارتباط بحيز من الأرض.
كثيراً ما قيل إن الحيز الترابي المغربي يتمتع بجاذبية كبيرة، منذ العهد الذي اعتبرت الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية فيه المغرب طفلها المدلل، بغض النظر عن المواجهات الحربية مع القوى المعارضة لها. والجدير بالذكر أن الحيز الترابي المغربي كان يعتبر دائمًا المحور المركزي لتواجد وطني حول دولة قومية تتمتع بسلطة ومصداقية متقلبة.
مرادفا للوطن، أصبح الحيز الترابي المغربي عنصرا معبرا عن الهوية وغير قابل للتفاوض. على هذا المستوى، فإن أي ضعف في التموقع أو أي إنكار يعتبر بمثابة خيانة. هكذا، تظهر كلمة “الهوية”. فبقدر ما تعبر عن غريزة فطرية في الانتماء إلى مجموعة بشرية، بقدر ما يمكنها أن تصبح عذرا مدمرا لأكثر الإقصاءات والتجاوزات الضارة.
إذا لم ننتبه للأمر، فإن البحث الجامح عن هوية فريدة، لا مثيل لها، يمكن أن يؤدي إلى فكرة نقاء العرق، عرق متفوق على الآخرين. وهذا بالضبط ما عايشناه في منتصف القرن الماضي عندما تمت إبادة بعض الأقليات العرقية. في جميع أنحاء العالم، جعلت الشعبوية السياسية من الهوية أرضا خصبة لخطاباتها، في حين سلك المغرب، لحسن الحظ، الطريق المعاكس.
تتوالى الصيغ وتتقاطع مع دلالات مختلفة. حتى لا نكون ماسوشيين، ونستمر في جلد الذات، يجدر الوقوف على ذلك التعبير السلبي، بل المهين لـ”المرّوك” في الجزائر بدعم من سياسيين يعملون على ترسيخ ثقافة الكراهية بين الشعبين. ذلك أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه مؤسف، أسوء ومحزن. من نحن بالنسبة لهذا الجوار المتعب؟
بكل تأكيد، “المروك” ليسوا أعداء للشعب الجزائري.
يوسف شميرو
مدير النشر