استيقظت مراكش صباح ذات يوم من سنة 1907 على جريمة قتل ذهب ضحيتها طبيب فرنسي يدعى الدكتور إميل موشون. مختصر القصة أن هذا الطبيب الشاب الذي فتح مستوصفا للأطفال بالمدينة، اعترض عدد من المغاربة طريقه وهو عائد لمنزله، ثم قاموا بطعنه ورجمه وسحله، والهجوم على بيته ونهبه وتخريبه، بدعوى أنه كان جاسوسا لدولته الأم فرنسا.
إلى هنا يمكن اعتبار الحدث قضية جنائية ككل الجرائم التي قد تحدث في أي زمان أو مكان، لكن ما حصل أن مقتل موشون كان هو الذريعة التي اتخذتها فرنسا لاحتلال المغرب بدعوى الحماية، وما تسرب من المعلومات بعد ذلك عن القضية يظهر أن تحرك هؤلاء المغاربة لم يكن عفويا، بل كانت خلفه أياد ألمانية، كانت تمني النفس بنيل ولو حصة من الكعكة المغربية. أستحضر تفاصيل هذه القصة وأنا أتابع التطورات المثيرة التي تعرفها فرنسا، بعد الحادثة الإرهابية التي راح ضحيتها معلم فرنسي على يد شاب شيشاني مسلم، وما تلا ذلك من تطورات كان من أهمها ما جاء في خطاب ماكرون خلال جنازة المعلم عن عزم فرنسا الاستمرار في نشر الصور المسيئة للنبي (ص)، ثم حالة الغليان التي يعرفها العالم الإسلامي ضد ماكرون وبلاده بتحريض من أوردوغان وتركيا، إلى الدعوة لمقاطعة المنتجات الفرنسية، والرد الفج لوزارة الخارجية الفرنسية عليها.
لنناقش الحدث بكل موضوعية، بعيدا عن كل هذا الصخب والشحن المتبادل بين فريقين، بما له من أبعاد تاريخية وعاطفية:
أن تنشر جريدة رسوما كاريكاتورية مسيئة للنبي الكريم، ولباقي الرسل والأنبياء، لا أرى شخصيا ما يوجب كل هذه الانتفاضة، هي جريدة مستقلة في دولة تكفل حرية التعبير، وتبيح السخرية حتى من رموزها ومقدساتها، كان الإعراض عما تنشره وعدم الوقوف عنده أمثل وسيلة لإهماله وتركه، علما أن كثيرا من هذه التصورات الكاريكاتورية عن نبي الإسلام موجودة في كتبنا وتراثنا، حين نجزم بصحة أحاديث ومرويات تتحدث عن عشق النبي للدماء، وعن طوافه على نسائه في ليلة واحدة، فذلك أسوأ مما خطه رسامو شارلي إيبدو، فهل القضية فقط أن ذلك مكتوب وهذا مرسوم؟ أو أن ذلك من عندنا والآخر ممن ليس منا؟
لكن المشكل الحقيقي برأيي هو أن تصدر هذه الإساءات والاستفزازات من رئيس الدولة، وأن تنشر الرسوم على مبان حكومية، في خطوة غير محسوبة، سيكون لها من التداعيات ما قد تعاني منه فرنسا لسنوات مقبلة. ماكرون بتصعيده للمواجهة يحاول أن يسحب البساط من اليمين المتطرف الذي تلقى هدية ثمينة من السماء من الشاب الشيشاني قاتل المعلم، لكنه لا يدرك أنه من جهة أخرى يبث الروح من جديد في جسد حركات الإسلام السياسي، التي واجهت في الفترة الأخيرة تراجعا كبيرا بعد سقوط كثير من أوراقها، “داعش” هي الأخرى تتغذى مما يقع لتعوض خسائرها الأخيرة، مما يجعل عواقب هذا التصعيد غامضة وغير محمودة.
صحيح أن عملية الإدماج لكثير من المسلمين بفرنسا باءت بالفشل، لأسباب كثيرة من أهمها الاصطدام الذي وقع بين فرنسا العلمانية، المؤسسة على قيم كونية ووطنية، مع عقل إسلامي ما زال لا يرى في فرنسا إلا ذلك الكيان الذي استعمر البلاد ونهب العباد، وما زال يعيش على أحلام إعادة التاريخ، مما يقوي في نفسه نزعات “الولاء والبراء”، ويعظم في نفسه التوجس والخوف من أن تسلبه فرنسا هويته وأصوله وثقافته، وصحيح أن النمو الديمغرافي لهذه الجالية المسلمة يقلق سياسيي أوربا، وصحيح أن حركات الإسلام السياسي قد تغولت بشكل كبير داخل هذه الجاليات، وصنعت لها نمطا من التفكير أقرب إلى الانعزال، لا يمكن إنكار ذلك كله، ولكن الحل لا يكون بكسر العظام جملة واحدة، ولا باستعداء ما يقارب ملياري مسلم لتحقيق مصلحة محلية.
أتذكر حوارا للملك الراحل الحسن الثاني مع صحافيين فرنسيين عن سوء التفاهم الذي يقع أحيانا بين الثقافتين، فكان جوابه «أننا نعرف عنكم كل شيء، لكنكم لا تعرفون عنا شيئا»، أعتقد أن هذا هو الذي جر ماكرون، وبعده وزارة خارجيته إلى ارتكاب هذه الأخطاء الفجة، والتي يستغلها بدهاء أوردوغان لينصب نفسه قائدا للعالم الإسلامي، ومحركا لوعيه ومواقفه، بعد أن فقدت السعودية بريقها وقدرتها على توجيه المسلمين في العالم. كل هذا لا يمنع برأيي المسلمين من الاعتراف بأن الإسلام فعلا يعيش أزمة، وأنه بدلا من أن نؤكد لماكرون صحة ما أورده بردود أفعال صبيانية، ودعوات عاطفية غير محسوبة الخطوات ولا النتائج، المطلوب منا اليوم، أن ننتظر مرور العاصفة، لنفكر بهدوء فيما يمكن أن يجنبنا في المستقبل مثل هذه الأزمات، والتي هي جزما ليست في صالح فرنسا ولا في صالحنا.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي