في هذه الظروف التي يعيشها المغرب، والعالم كله، تحت وطأة وباء كورونا، تتنامى وتتولد أسئلة عديدة حول وضع المجتمع المغربي في زمن الأزمات، وكيف يتدبر فيه الأفراد علاقتهم بالمؤسسات وبالسلطة وكذلك في تجسيد معتقداتهم… كل هذه التساؤلات والتداخلات، نضعها بين يدي عالم الاجتماع نور الدين الزاهي، الذي اشتغل طويلا على عدة ظواهر سوسيولوجية، أبرزها المقدس والعنف في المجتمع المغربي. لكن هذا الحوار، هو أيضا، فرصة نادرة لأن نضع عالم الاجتماع موضع السؤال، للحديث عن مساراته السياسية والفكرية والأكاديمية، التي يعكس فيها تاريخ وسياق أجيال ومفكرين انخرطوا في حركية المجتمع بكل انتفاضاته وآماله وأحلامه.
بدءا، حدثنا عن نشأتك ومراحل تعلمك الأولى؟
حسب وثائق الحالة المدنية، أنا نور الدين زاهي من مواليد 1962، بالبيضاء وبالضبط بحي درب السلطان. لا أعلم يوم ميلادي بالضبط، مُعفى منذ الأصل من حفلة عيد الميلاد. وحسب حكايات الوالدة، أنا نور الدين الحياني (نسبة إلى قبيلة حياينة المتاخمة لمدينة فاس) ولدت بالقرية-القبيلة سنة وفاة محمد الخامس، ضمن فترة غامضة رحلت فيها الأسرة من البيضاء إلى القرية، وبعدها تمت العودة إلى البيضاء… وبعد انتفاضة 1965، ستعود الأسرة إلى فاس لتستقر بشكل نهائي، وسبب ذلك، حسب محكي الوالدة، هو أن الأب الذي كان “خضارا” بسوق “القريعة”، تعرض بعد عودته من السوق إلى الضرب والتعنيف من طرف رجال السلطة، وهو على غير علم بأن مدينة البيضاء تعيش على إيقاع الانتفاضة وحظر التجوال… كره الأب مدينة البيضاء وعاد بنا جميعا إلى البادية إلى أن دبر أموره. واكترى لنا بيتا بالمدينة القديمة بفاس، وبعدها بدأت رحلة التأقلم اللغوي والسلوكي والقيمي العنيفة مع أهل فاس وأخلاق وأدب أهل فاس.
ولجت “المسيد” وبعده مدرسة “الووربية” الابتدائية المعروفة، إلى جانب ابتدائية “العدوة”، بالمدينة العتيقة، وأنا أحمل اسمي العائلي “الحياني”. تصور طفلا يحمل هذا الاسم العائلي القبلي، يجالس في صف المدرسة الابتدائية بالمدينة العتيقة بفاس، أسماء عائلية من مثل التلميذة “غلاب” التي لا زالت صورتها عالقة في ذهني، هي ومقلمتها الخشبية (دمية “باربي” صغيرة بمقلمة مرتبة وذات أقلام حبر نظيفة ومرتبة…)، والصقلي وبرادة وابن جلون والكتاني…
تغير الاسم العائلي، وأفترض أن “مآسيه” الرمزية كانت من بين أسباب تغييره والالتحاق بالاسم الذي ابتكره أحد أعمامي الذي استقر بالبيضاء مبكرا، وهو الذي يحدد الآن هويتي التي لا أصل هوياتي لها. لقد صدق الباحث حسن رشيق في جل، إن لم أقل كل، ما سطره عن الاسم والتسميات العائلية، ووهم الاعتقاد في ثباتها وصلابتها وصفائها وتجانس سلاسلها النسبية وقاعديتها الهوياتية…
وما معنى الاندماج في المدينة في فترة الستينات؟
أن تصبح مدينيا (أن تدمج)، وفي مدينة فاس، لحظة الستينات لم يكن الأمر يسيرا. وحدها هندسة المدينة ودروبها ونمط انتظام أحيائها، وتراص بنيانها، ومتاهات أزقتها كانت تفرض الالتقاء والاحتكاك، الظهور والاختفاء، كتمان الأسرار ومعرفتها، الإحساس بالسعة داخل ضيق الأمكنة. مدينة فاس العتيقة لا تبصر إلى الخارج، كل عيونها شاخصة نحو ما يقع بالداخل، وذاك كان سبب حرصها الصارم أن تزدري “الآفاقيين” لا لكي تطردهم، بل كي تدمجهم حسب قواعدها وقيمها. والمدرسة العمومية كانت إحدى آليات الدمج ذاك. داخل مسارات الحركة من الابتدائي إلى الإعدادي، بدأت ملامح المدينة تتغير ومعها أهلها وساكنتها. غيّر الأب مهنته ليصبح رصاصا، مثلما غيرنا الإقامة من داخل الأسوار إلى خارجها، واستوينا كأسرة في حي تتوسطه زاوية الشيخ “سيدي بوجيدة” ومسجد يحاذيها. حي لا يعرف من الصلاح غير اسم الشيخ الصالح… يحتاج الحكي عنه في أكثر من مقام ومقال…
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 79 من مجلتكم «زمان»