التعبير ليس لي، بل هو عنوان لمقال كتبه الفيلسوف الفرنسي كي سورمان في جريدة “لومند” بتاريخ 2 أكتوبر 2016، “Finissons-en avec l’horreur identitaire” جرّاء ما يتوزع فرنسا من خطابات هوياتية، وانقسامات طائفية وتلويح بحرب أهلية. أخذ سورمان على عاتقه أن يُظهر محاذير خطاب الهوية ونتاج الخردة «الفكرية التي تضع الهوية على السوق وتجعلها مجلبة للأصوات من دون أن تكون قادرة على تحديدها بدقة». اضطلع سورمان بمسؤوليته كمثقف واستشهد بما أوكله جوليان بويندا للمثقف في كتابه الشهير “خيانة العلماء”، من أن يُحكّم ضميره ويُغلّبه على كل إيديولوجية أو إغراء الحظوة والشعبية أو السلطة… أستعين بهذا المقال، لأرد على رد صحافي في موقع اجتزأ مقالا لي على متن هذه الصفحة، حين قلت بأن خطابات الهوية استدرجت الكثير منا، وأضفت أننا زدنا وضمّنا التمايزات الثقافية القانون الأساسي. ما فهمه الصحافي أو تعسف في فهمه لا يلزمني، ولكني لست مقتنعا بما تضمنه الدستور من «مقومات الهوية المغربية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها العربية الإسلامية، الأمازيغية، والصحراوية الحسّانية والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية». تعبير جميل، ولكنه فضفاض يكرس خطاب الهويات. هل هناك تقابل ما بين الإسلام والأمازيغية؟ هل الحسّانية متعارضة مع العربية أو مختلفة عنها أم هي جزء منها؟ هل الأندلس عرق أم ثقافة؟ أليست الأندلس رباطا فكريا ضم المسلمين واليهود والمسيحيين، فلِم نختزلها في فهم ضيق لأسر وعائلات وموسيقى ومعمار، كما لو أنها، تاريخيا، منفصلة عن العنصر الأمازيغي والعمق الأمازيغي؟ وماذا نعني بالإفريقي، فأفريقيا قارة شاسعة، بثقافات متعددة، وأجناس مختلفة، وهل يتضمن عنصر الهوتو والتوتسي والزولو والمساي، ،لأنها مكونات عرقية وثقافية إفريقية، ومن الإفريقي من هو أبيض البشرة، مثلما قال الملك محمد السادس في رسالته لمؤتمر الاتحاد الإفريقي. ألا يعني محررو النص بهذا التعبير ذوي البشرة السوداء؟ أهؤلاء منفصلون عن الثقافة العربية أو الأمازيغية حسب المناطق؟ لربما لو تكلم النص عن العنصر الحرطاني، من دون معنى قدحي للكلمة، أو البامبارة، أو التكرور، لكان أدق، لأن هؤلاء عناصر من نسيج الأمة المغربية. هل كل ساكن للصحراء يتكلم الحسّانية؟ هل نقصي ساكنة الصحراء ممن لا يتكلمون الحسّانية، في تافيلالت، ودرعة وطاطا، وهم كثر، من هذا التحديد. الخطابات الطائفية الناتجة عن شيوع خطابات الهوية تسعى أن ترضي كل الأطراف، ولا ترضي أحدا في نهاية المطاف.. هل عسير علينا، أن نُعبّر عن الأمة المغربية التي انصهرت عبر التاريخ، بمختلف أعراقها وثقافتها وعقائدها، وتلتحم عبر المصير المشترك، وتقوم على قيم الوحدة والتضامن والمساواة.. هل يتحدث الدستور الأمريكي عن البعد الإيرلندي والإيطالي؟ أو الدستور الفرنسي عن السيلت والغاليين، أم يتحدثان عن قيم مشتركة… منذ مدة، وأنا أحذر من مغبة الهوس الهوياتي، ورُغْت إلى ما أسميته بالشخصية عوض الهوية، وأبنت أن الهويات، كل الهويات هي بناء، وأنها تقوم على عنصر موضوعي، عرق، لغة، دين، وتقيم بناء لا يستقيم من دون نصب الآخر عدوا، أو شيطنته بلغة اليوم، وهي أشياء درسها باحثون غربيون، لا يتسع المقام لها هنا. أحيل ها هنا لكتاب مرجعي للباحثة أن ماري تيس
“La création des identités nationales” ومما تقوله الباحثة الحصيفة، من المركز الوطني للأبحاث العلمية، إن الهوية الفرنسية تحددت في التسعينات في مقابل الهجرة، وهي الآن تتحد في تعارض مع الإسلام. كذا. ليس معناه أني أتنكر لأمازيغيتي، أو أمازيغية المغرب، ولكن هاجسي، ليس أن أجتزئ جسدا حيا لكي لا أنظر إلا لأعضائه منفصلة. أريد أن أراه كما هو، في وحدته، وفي ديناميته وفي تفاعل أعضائه. لأيٍّ أن يراه، في جزء أو أجزائه، ليس لي تلك المَكنّة، وليس لي تلك الرغبة. وليس معناه كذلك أني أتنكر لعروبتي وعروبة المغرب. فهذا واقع كذلك. وعروبتي وأمازيغيتي ليستا ولدي تصاهر عرقين وتزاوج ثقافتين، بل بالأساس هما إرادة واختيار.. وهذه الإرادة، على قوتها لا يمكن أن تلتحم من دون قيم مشتركة، والذي يجمع الأمم، وجمعها عبر التاريخ، أكثر من العرق، وأكثر من اللغة، هو الإيمان بقيم جامعة. هذا ليس رأيا أنفرد به، بل رأي العقلاء من هذا البلد، ومن لهم غيرة على هذا البلد. أن يُغضب قولي قبيلا أو يؤلبهم ضدي، هو أدنى اهتمامي. كنت كتبت مقالا في جريدة “الحياة”، سنة 1997، وكان ردا على السياسي الجزائري محيي الدين عميمور، وقلت فيه إننا إن لم نُعن بالأمازيغية فسيُعني بها آخرون بأجنداتهم الخاصة، في إيكس أو بروفانس، وتل أبيب.. وحين عبرت عن ضرورة الاعتناء بالأمازيغية، في دائرة القرار، مزج البعض بين الاعتبارات الذاتية والموضوعية، و هرع البعض ونعتني ببربريست، وبنى آخر مسارات من خلال العداء للأمازيغية، وترجموا ذلك ترجمة رديئة، هو استعدائي والتحذير مني، كما لو أن ذلك سينفي حقائق موضوعية. كان حالهم حالَ ما عبّر عن المثل المغربي الجميل عن الحمار: «شاف الربيع ما شاف الحافة». والمطلوب أن نرى أبعد مما يظهر لنا، وأن نستشف ما لا يظهر، ونستجلي ما يخفي، وإلا فما جدوى أن نُضّيع للقراء وقتهم ومالهم. هاجسي هو وحدة بلدي وقوته ومناعته. لست لا بربريست ولا قومجي ولا خوانجي ولا فرنكاوي، أنا مغربي، يغار على بلده، لا ميزة له في ذلك، يؤمن أن مكونات الشخصية المغربية ينبغي أن تكون في خدمة المغرب، لا المغرب في خدمة تلك المكونات. من حقه بل من واجبه أن يصوغ تصورا للمغرب يتسع للجميع، بلا إقصاء ولا ميز ولا حظوة لفريق دون آخر، لتمَيَّز عرقي حقيقي أو مفترض، أو عقدي أو تاريخي. قد أخطيء، ومن حق المثقف أن يخطيء، وخطؤه حين يقع هو ما يفتح منادح جديدة ويجنب مخاطر مستترة، أو مثلما قال أبو العلاء المعري في بيته الشهير :
وأعجبه أني أخطئ دائما // مع أني من أعلم الناس بالناس
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير