كل 29 أكتوبر، يجتمع حشد صغير أمام مقهى “ليب”، في الحي اللاتيني بالعاصمة الفرنسية باريس، لإحياء ذكرى اختطاف المهدي بنبركة في هذا المكان بالذات. مرت، الآن، 51 سنة على واقعة الاختطاف، ثم الاختفاء الكلي. ومع ذلك، لم يسأم الرفاق وأفراد العائلة من قصد نفس المكان، لأن الأمر يتعلق بـ”واجب الذاكرة”، وأيضا بـ”واجب العدالة”، الحاضرة دائما، لكن ليس بالشكل الكافي الكفيل بالكشف عن الحقيقة. يرتبط الأمر، أيضا، بجريمة اغتيال ما تزال تخيم على حياتنا السياسية منذ أزيد من نصف قرن. فما هي الدلالات التي كانت تحملها في تلك الحقبة؟ وأية قراءة يمكن أن تُقَدَّم لها على ضوء الوقت المعاصر؟
يفيد تعدد الفرضيات وطول المدة، التي استغرقتها القضية في المحاكم، على أننا أمام شخصية معقدة للرجل-الضحية. وقع ذلك في ستينات القرن الماضي، العقد الذي كان يمور تحت مجموعة من الأخطار على الصعيدين الوطني والدولي. كان المغرب قد بدأ، بالكاد، يبحث عن ذاته، كما بدأت العديد من الأسئلة تطرح نفسها، بينما ظلت الإجابات، على قلتها، غير قابلة للتحقق.
من بين تلك الاسئلة نذكر: هل، حقا، كان المغرب مستقلا؟ أية هيكلة مؤسساتية، وتحت أي نوع من النظام، يجب تبنيها لاستكمال الاستقلال الذي كان عدد من الفاعلين يرون أنه استقلال ناقص؟ في أي قطب يجب أن يتموقع المغرب وسط عالم قسمته الحرب الباردة؟ ألم تكن مفاوضات إنهاء الاستعمار صفقة خاسرة مكنت لاستعمار جديد من نوع آخر؟
كان المهدي بنبركة حاضرا على كل الجبهات، وطنيا ودوليا. كان رجل فعل ورجل فكر في مرحلة مضطربة، تتنازعها آراء ورغبات الفاعلين الأساسيين، هنا وهناك، كما ميزها التأسيس لثوابت إيديولوجية صاغها مفكرون، وحاولوا من خلالها رسم الطريق السياسية التي يجب سلكها. كان بنبركة يعيش، في هذه المرحلة، مثلا وقضايا تتجاوز الفرد، إلى حد قد يدفع حياته ثمنا لها. كما كان بنبركة، المواطن الثوري العالمي، يأمل في مصير أحسن لدول العالم الثالث، وبالموازاة مع ذلك، كان يحلم بمغرب آخر. هكذا عمل على تجسيد هذين المشروعين الكبيرين، على أرض الواقع، من خلال خلق وسيلة تنظيمية للانتقال إلى الفعل. لم تكن تلك الوسيلة إلا “منظمة القارات الثلاث” للعمل على التحرير الفعلي للشعوب الخاضعة لاضطهاد الاستعمار الجديد أو اضطهاد الدكتاتوريات، بينما كان يوجه حزبه “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، من الخارج، إلى العمل على تحقيق العدالة والتنمية في مغرب يستجيب لآماله وتطلعاته. في هاته الظروف، تعرض بنبركة للاختطاف والقتل، في الوقت الذي أصبح جليا أن لا واحدا من ذلك الورشين وفر ملاذا آمنا له، عكس عدد من رفاق الأمس الذين انتقلوا للعيش في الأحياء الراقية بالرباط. بل يمكن القول إن بنبركة اختار مصيره عن قوة قناعة وثبات رأي. فقد أثار انخراطه في نضالات العالم الثالث غضب القوى الإمبريالية والحركة الصهيونية أيضا. كما ظل التزامه السياسي في المغرب، حتى وإن كان عن بعد، يثير حفيظة رجالات النظام حينئذ. صحيح أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كانت تتجاذبه تيارات متعددة، وأحيانا متناقضة. كان يلتقي، داخل هذا الحزب، القوميون العرب-البعثيون، الانقلابيون، الماركسيون اللينينيون وأحيانا الماويون، الليبراليون التقدميون، كما كان يلتقي داخله العلمانيون الحداثيون والإسلاميون الأصوليون… كان القاسم المشترك بين كل هؤلاء هو رفض النظام القائم، والعمل على إقامة نظام آخر بدله باستعمال كل الوسائل، ليدخل الطرفان في صراع إيديولوجي خلف الكثير من الخسائر، المباشرة وغير المباشرة، من الناحيتين البشرية والسياسية. كان القمع رهيبا. فيما كان يرى النظام، عن خطأ أو صواب، أن بنبركة، المنفي والموجود حينها في مكان ما من العالم، حاضر بقوة في ذلك الصراع. ماذا بقي، الآن، من فكر وسلوك المهدي بنبركة اللذين غذيا حركته السياسية؟ وإذا افترضنا أنه عاد اليوم، ألا يمكن أن يقول لنفسه إنه تعرض للتضليل، وهو الذي اتصف بالثبات في المواقف وإنكار الذات والإيثار على نفسه وبقمة التواضع، وهي صفات أصبحت، يوما بعد يوم، عملة نادرة في المقاربة والممارسة السياسية حاليا؟
هل يعني أنه ضحى بحياته من أجل لا شيء؟ حقا، لا. والدليل أنه لم يسبق أن ظلت جثة على المشرحة أكثر من نصف قرن. سيواصل المهدي بنبركة، من عمق قبره المجهول، مطالبة الأجيال بأن تحمل مصيرها بين أيديها، الذي ليس إلا مصير بلدها.
رسالة المهدي تنبعث دائما.
يوسف شميرو
مدير النشر