قيل، رسميا، إن تعويم الدرهم سيدخل حيز التطبيق ابتداء من الشهر المنصرم. عشية الساعة الصفر قيل، على نحو لا يخلو من ارتباك، إن تنفيذ القرار تأخر إلى أجل غير مسمى. لم تقنع التبريرات التي سيقت لتفسير هذا التأجيل، ولم يتم تحديدها صراحة في التوضيحات الرسمية، لكن الجميع فهم أن الأمر يتعلق بفورة المضاربات غير المشروعة التي زعزعت استقرار السوق النقدي الوطني، أياما قليلة قبل الشروع في اعتماد قرار التعويم. عدا شكوى والي بنك المغرب من هذه المضاربات، لم يظهر أن ثمة إجراءات زجرية اتخذت في حق المسؤولين عنها. كما لا يظهر، إلى حدود نهاية يوليوز الماضي، أن ثمة أي رؤية واضحة ودقيقة حول تنفيذ هذا القرار. هل ما يزال واردا؟ متى سيتم الشروع في تنفيذه؟ وماذا عن الاحتياطات العملية التي اتخذت لتفادي مخاطره المحتملة؟ ليس ثمة أوضح من هذا المأزق دليلا على مدى العشوائية التي بلغها تسيير الشأن العام. فلا المنهجية الديمقراطية احترمت، ولا المنهجية التقنوقراطية نجحت.بديهي أن قرارا هاما مثل تعويم الدرهم يجب أن يخضع للنقاش السياسي، بما له من تبعات على القدرة الشرائية للمواطنين، وأن يتصدى لتفسيره والدفاع عنه رئيس الحكومة، باعتباره المسؤول الأول عن السياسة الاقتصادية، وأن الإدارة تخضع له… لكنه اليوم أبعد ما يكون عن هذا الموضوع، لكأنه يبدو شأنا خالصا لبنك المغرب! بديهي أيضا أن أي خيار تقني يستوجب غطاء سياسيا، يستطيع تصريفه وتحمل تبعاته، تماما كما يحق له الاستفادة من ثماره انتخابيا. هذا الغطاء السياسي هو ضمان المسؤولية، إذ يرتهن مستقبل السياسي، أكان رئيس حكومة أم نائبا برلمانيا، بنتائج السياسة التي يتولى الدفاع عنها. عندما تنعدم المسؤولية تكبر فرص التخبط والعشوائية، وقد يصل الأمر إلى حد فقدان الثقة، وفي ذلك خراب الدول.
ليس في هذا الكلام أي جديد، بل هو بديهي غاية ما تكون البداهة، مسلم به في كل بلدان الدنيا المتحضرة. بيد أنه ليس كذلك عند الراسخين في المنهج السلطوي. والحال أن كل أزمات المغرب إنما تجد سببها، العميق، في هذا الإصرار على ترك البديهيات. على سبيل المثال، إذا قدر لمؤرخ غدا، أن يتعرض لأزمة الحسيمة، فلعله سيقف مندهشا لمدى الجرأة على إنكار البديهيات، وكيف أن هذا الإنكار حول حادثا عرضيا إلى أزمة سياسية خطيرة! لو احترمت القوانين المسطرة، في المعالجة الإدارية السياسية، والجنائية، لذلك الحادث، لما كانت هناك أزمة. هكذا تقول البداهة، بكل بساطة! لكن أصحاب القرار كان لهم رأي آخر، فإذا بالبلد يغرق في أزمة ما أغناه عنها.
قد يقول قائل، ألا تفرض البداهة كذلك، أن إدارة الأزمات تفرض الإمساك بيد من حديد. سوى أن هذه البداهة لم تعد كذلك بدليل فشلها حتى الآن في حل الأزمة. لقد تغير العالم من حولنا، منذ مدة طويلة. واتسع مجال المشاركة كما لم يحدث من قبل، وما عاد أحد يقبل الإعراض على البديهيات، على الأقل في ما يتصل بحقوقه المادية الطبيعية.
إسماعيل بلاوعلي