وقع الرئيس التركي رجب أردوغان، مؤخرا، مرسوما بإعادة متحف أيا صوفيا إلى مسجد وفتحه للصلاة، ساعات فقط بعد إبطال محكمة عليا لقرار مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك بتحويل المبنى إلى متحف. كان يمكن اعتبار الموضوع شأنا داخليا، وسياسة انتخابية، ودهاء من رئيس تركيا، الذي يجيد لعب التوازنات من خلال استثمار التاريخ ودغدغة العواطف وتوظيف “الأمجاد” العثمانية، دون الحاجة سوى لبعض التصريحات الاستعراضية، أو اختلاق بعض المعارك الهوائية، وفي الجهة المقابلة، لعب الأدوار الطلائعية داخل منظمة الناتو، ورفع أرقام المبادلات التجارية مع إسرائيل، وتدبير القضايا مع كل الأطراف الدولية بكل براغماتية…
لكن الحديث عن الموضوع يفرض نفسه، بما لقي من ردود فعل دولية، فقد تأسفت منظمة اليونسكو للقرار، وأدانته اليونان، وانتقدته الكنائس الشرقية بالعالم، كما أنه بالمقابل خلف موجة هستيرية من الفرح عند كثير من المسلمين، وخصوصا عند كثير ممن يعيشون بأجساد في الرباط أو الرياض أو القاهرة، وقلوب في إسطنبول.
ما يعنيني من التفاعل حول هذا الموضوع قضيتان أساسيتان: لا يمكن تفسير كل هذا الفرح الجارف الذي أصاب كثيرا، إلا بما تركه الحدث من إحساس بالانتصار على الآخر، ذلك الانتصار الذي وإن كان وهميا، لكن الدهاء السياسي حوله لرصيد انتخابي و إيديولوجي، هو بنظر هؤلاء “فتح” إسلامي، وحلقة في سلسلة صراع الأديان، والتوق إلى طمس الدين الآخر ومحوه من الوجود.
لاشك أن مثل هذا النمط من التفكير قائم عند طوائف كثيرة في كل الأديان، يود المسلم لو تحول العالم كله إلى “دار إسلام”، ومنيته لو تحولت كل كنائس العالم إلى مساجد، مثل ذلك تجده عند طوائف من المسيحيين واليهود وغيرها من الملل، كل يدعي أنه الأولى والأعلى والأحق، والأخطر من ذلك، حين تتحول هذه العصبيات الدينية إلى حالة هذيان جماعي، وتوهم انتصارات دونكيشوتية تعوض مشاعر الحسرة على واقع متخلف. منطق هؤلاء اليوم أن هذا حكم الغالب، وأن قوانين الحرب تفرض مثل هذا السلوك، كما كان الحال بمساجد الأندلس التي حولت إلى كنائس. لا يعي هؤلاء المتحمسون الجدد أنهم بمثل هذا الطرح يجردون الإسلام دون وعي من أهم قيمة جعلها محور قوته وعلامة تميزه عما كان قبله، رفع الإسلام منذ يومه الأول شعار الأخلاق، والثورة على الظلم، والرحمة المهداة لكل البشرية، وهو الشعار الذي أدى دوره في كثير من المراحل التاريخية لحد اعتناق كثير من الأمم له دون قطرة دم، بل لدرجة تحول الغازي إلى دين المغزو إيمانا بما فيه من قيم أخلاقية متفوقة عما كان سائدا كما كان الحال مع التتر والمغول.
حين نسوق اليوم لمنطق أن الحكم للغالب، أو أن محمد الفاتح قد اشترى الكنيسة من أصحابها، فنحن نجرد الإسلام من كل هذا التميز، ونحوله إلى إيديولوجية مادية وفكرة شوفينية، لا يختلف في أسسه عن باقي الأفكار الاستعمارية، هي نفس ما تروجه الحركات الصهيونية حين تشهر عقود بيع الفلسطينيين لأراضيهم قبل مغادرتها، بل أين هي المشكلة في تحويل المساجد والكنائس إلى معابد يهودية مادام الحق لكل منتصر في طمس المعالم الدينية لمن كان قبله؟
ما لا يتم استحضاره في ظل هذا الشحذ الديني، هو أن موازين القوى اليوم مختلفة تماما عما كان في العصور السابقة، يوم كانت السيطرة على المعبد دلالة على السيطرة السياسية وإعلان الانتصار، في ظل حروب دينية قائمة على التوسع في بلاد الآخر، حماية للنفس وتوفيرا للموارد، وهو ما لا أثر له اليوم، حيث لم تعد الأديان تفرق بين العالم، وحيث لا نستغرب وجود مسيحي أو يهودي على رأس منصب مهم بدولة مسلمة، ولا يثيرنا وجود عمدة مسلم على رأس تدبير شأن مدينة أوربية.
قضية أخرى يثيرها التفاعل مع هذا الحدث، وقد تزامن مع نقاش دائر حول تفضيل بعض الإسلاميين لصفقة تجارية مع تركيا على توظيف المنتوج المحلي، وهي ازدواجية الولاء عند بعض التيارات الإيديولوجية بين موطنهم الأصلي وبين تركيا “دولة الخلافة الإسلامية”، لم يحسم هؤلاء تصورهم للدولة الوطنية ومعنى الانتماء لها، فلذلك يرون أن التركي الذي يتقاسم معهم نفس الإيديولوجيا، بل الذي يدغدغ أحلامهم باسترجاع بطولات ماضية، أقرب إلى قلوبهم من المختلف عنهم دينا أو فكرا حتى وإن كان يحمل معه رقم البطاقة الوطنية، هي إشكالية لم تحسمها حركات الإسلام السياسي، وتحتاج فيها لمراجعة جذرية، لا تكتفي فقط برفع الشعارات الوطنية، بل لا بد من تنزيل ذلك إلى القواعد، بشكل يقطع تماما مع هذه المشاهد التي تحيلنا إلى وجود جالية تركية مقيمة بالمغرب، جالية تنتمي إلينا قالبا، وإلى إسطنبول قلبا.
خلاصة القول هو أن الموازين قد تغيرت اليوم، وأن قوة الدول تحكمها اعتبارات مختلفة لكنها بالتأكيد ليست دينية، وأن الإسلام فكرة أخلاقية، وهي ما يملك اليوم لتأطير المجتمعات، بعد أن تجاوز العالم الإسلامي قضايا التشريع والقانون، وأن الصراع اليوم ليس صراع القوة والسلاح، وإنما هو صراع الوجود الأخلاقي، فمتى ما جرد عن ذلك، لا داعي للحديث بعد ذلك عن سمو الإسلام وأخلاقيات الإسلام.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي