تحل في بحر هذا الشهر الذكرى المئوية لمعركة أنوال. هزم عبد الكريم الخطابي ومقاتلوه، في 21 يوليوز ،1921 وحدات عسكرية نظامية مدججة بأعتى السلاح في معركة غيرت معالم التاريخ .لقي القائد العسكري الإسباني الجنرال سلفتستير حتفه من دون أثر، وكان قبلها يتوعد الأهالي ويهزأ منهم. واهتزت إسبانيا واعتبرت هزيمتها تلك، كارثة .معركة أنوال أهم حدث غداة الحرب العالمية الأولى، إذا ما استثنيا تداعيات الثورة البولشيفية. كانت أول انتصار تحققه الشعوب المستضعفة على قوة استعمارية، وتزعزع من ثمة البنية الاستعمارية، وتتهددها .وكانت أول تطبيق عملي لشكل جديد من الحروب، سيصبح منظومة عمل للقوى الصغرى في مواجهة قوى كبرى، وهي حرب العصابات. ستصبح مقاومة هذا القيادي الذي كان قبل أنوال مغمورا، وأضحى اسمه على طرف كل لسان، مصدر إلهام لحركات غيرت معالم العالم، في الصين والهند الصينة، وأدغال أمريكا اللاتينية.
حدثت أولى تموجات الصدمة بإسبانيا التي تغيرت منذ ذلك التاريخ .وبرزت آثار الكارثة في الانقلاب العسكري بقيادة برميو ريفيرا، وكان ذلك الانقلاب إرهاصا لما سيأتي، إذ تمت الإطاحة بالملكية وتم إعلان الجمهورية سنة .1927 وكانت من تداعيات حرب الريف، بروز عقيد كان في دائرة العراك في الريف وتضاريسه الوعرة وهو فرانسيسكو فرانكو، وهو من سيحسم المواجهة بين الكتائب اليمينية في إسبانيا، وبين الجمهورين في حرب أهلية ضروس، سنة 1936 بفضل عناصر من القوات المغربية ويتولى الحكم. ولذلك قيل بأن القرن العشرين في إسبانيا كان قرنا مغربيا، ويظل المغرب حاضرا في اللاوعي التاريخي لدى إسبانيا.
وكانت تداعيات المعركة قوية على مستوى ما كان يسمى بـ“المغرب الفرنسي“. خشي القائد الفرنسي ليوطي أثر العدوى، مما يتهدد الوجود الفرنسي في المغرب والجزائر، ويعد سابقة خطيرة تتهدد القوى الاستعمارية. انتقلت الخشية إلى برلمان فرنسا، وكانت حرب الريف أهم موضوع ينكب عليه رئيس المجلس، لوضع حد لتمرد يتهدد ليس فرنسا وحدها، بل القوى الاستعمارية، أو الغرب، ورأى بعض أصحاب الرأي الفرنسيين بأن حرب الريف، هي حرب حضارية، وأن ساحة المواجهة بين المسيحية والإسلام هي شط نهر ورغة، كما كانت بواتيي في بلاط الشهداء ساعة الوغى بين الإسلام والمسيحية. وبذات الوقت أعطت معركة الريف زخما للأحزاب الشيوعية في أوربا، وخاصة في فرنسا، ورأت تلك الأحزاب في معارك الشعوب المستعمَرة رديفا لنضال البروليتاريا وحليفا موضوعيا تتطابق مصالحهم ضد عدو مشترك، وناصر السوفيات تجربة الريف، ورأوا فيها أحد تجليات إيديولوجيتهم.
معركة أنوال حدث تاريخي غير موازين القوى العالمية .نعم، انتهت المواجهة باستسلام محمد بن عبد الكريم، لكن التاريخ يحبل بصور منهزمين يجللون هامته أكثر من المنتصرين. وليست الغاية استعراض فصول هذا الحدث، في هذا الحيز، ولا الازدهاء، ولكن السعي لاستقراء دروس أنوال.
وأول هذه الدروس أن الطرف الضعيف لا ينتفض ضد القوى إلا كرد فعل ضد غطرسة القوي. فالخطابي لم يولد معاديا لإسبانيا. عرفها عن كثب، وتشبع بقيمها، وخدمها، وآمن بقيمة التعايش بحكم الجوار، ولكن إسبانيا متعجرفة هي التي دفعته إلى المواجهة .فالقوي هو من يخلق عدوه، من خلال استعلائه وقصور نظرته.
والدرس الثاني هو أن الطرف الضعيف حتى حين ينهزم، يؤثر في الطرف القوي. لا يضير الطرف الضعيف أن ينهزم أمام من هو أقوى، ولكن انتصار القوى على طرف ضعيف، هو هزيمة في واقع الأمر. والحال أن إسبانيا حتى بعد وضع حد لتمرد الريف من قبل فرنسا، لم تبرأ من تداعياته، فقد سقطت الملكية، وقامت الفاشية التي استمرت من 1936 إلى غاية ،1975 وجعلت من إسبانيا حالة خاصة في أوربا، وحتى مع دمقرطتها مع دستور ،1978 لم تبرأ إسبانيا من مخلفات الفرنكية.
والدرس الثالث، وهو ما قد يهم المغاربة، هو عدم النظر إلى حلقة أنوال بمظهر الازدهاء والانتشاء، ولكن من خلال نظرة موضوعية، والأهم استخلاص العِبر من حدث تاريخي غيّر مجرى العالم، وهو أن تاريخ المغرب وإسبانيا متداخل، وأن الذي يفرق بين البلدين هو رؤى إيديولوجية، إما باسم الحروب المقدسة، أو ما يسميه الإسبان بحروب الاسترداد، أو الاستعمار، أو مخلفات الاستعمار.
وماذا لو جعلنا من الذكرى المئوية لمعركة أنوال مناسبة لتغيير معالم التاريخ، ليس من خلال استعادة فصل من فصول المواجهة والاستعلاء، أو النفث في أوار صدام الحضارات، ولكن من أجل أن نجعلها فصلا من فصول التعاون والاحترام، وتآلف الحضارات .وتلك لَعَمري هي أم المعارك الجديدة، أو الرهان الحقيقي.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير