نال التكنقراط من الانتقادات الشيء الكثير، وتعرض المثقف لوابل من المآخذ، ومنها غيابه، أو صمته، أو تخندقه في معرفة أكاديمية، أو خبرة عوض أن يجعل غايته طرح الأسئلة. كل تلك الانتقادات وجيهة، ولكن هيئة لا تستقيم الدمقراطية من دونها ظلت في منأى من التشريح، وهي الأحزاب، عدا المشاكسات فيما بينها والتي تدخل في خانة التنافس أو التدافع، حسب المصطلح الذي صاغه الإسلاميون، وما يصاحب ذلك التنافس من مزايدات. لا نتحدث عن حزب معين، بل الأحزاب بالمطلق، لأن دورها أساسي في العملية الدمقراطية. يحدد لها الدستور دورا أساسيا، وهو تأطير المواطنين. بمعنى أن دور الأحزاب لا يقتصر على عمل موسمي يرتبط بالانتخابات .يستمر دورها، أو أن ينبغي أن يستمر، في الفترات الممتدة ما بين الانتخابات، لأن التأطير ليس عملا موسميا، وهي تقوم بذلك من خلال امتدادات لها، سواء في الشريحة الشبابية أو النسوية، أو في امتداداتها النقابية، والمهنية، وفي قوتها الاقتراحية .فالحزبان الأمريكيان الجمهوري والديمقراطي يعتمدان على خزانات أفكار، يشتغلان على قضايا عدة، سواء أكانا في السلطة أم المعارضة، وهو التقليد الذي انتقل لأروبا، وأخذت به بعض من أحزابنا، وأنشأت مؤسسات للبحث، ولكن بريق تلك المؤسسات خفت، وأضحت نوعا من حلقات الإمتاع والمؤانسة، هذا علاوة على التغييرات التي طالت الصحافة، حيث لم تعد للأحزاب أدوات إعلامية، واستقلت الصحافة عن الأحزاب في الغالب، ولم تعد الصحف المؤثرة لسان حال الأحزاب.
ليس المطلوب استنساخ نماذج من الماضي، فالعالم يتطور، وليس مطلوبا أن يكون لكل حزب جريدة، ولكن المطلوب أن تكون الأحزاب حاضرة بقوة في المجتمع المدني، وحاضرة في النقاش الذي يعتمل في المجتمع، وفي القضايا الحساسة. استنّت بعض الأحزاب تقليدا إيجابيا من خلال تنظيمها لجامعات، ولكن هذا الدور خفت كذلك… أضحت الجامعات أدوات استقطاب، وعملية علاقات عامة وتجمعات من قبيل ما يمسيه الأمريكيون “Getting Together” عوض أن تكون أدوات للتأطير أو صياغة رؤى.
ظل دور الأحزاب في الغالب متأرجحا بين استجداء صوت الناخب، وتزكية توجهات الدولة… ولا جدال أن دور الأحزاب هو في كسب أصوات المواطنين، ولكن ذلك يتم من خلال برامج، وليس فقط من خلال تقديم خدمات لشرائح أو وعود براقة أثناء الحملات الانتخابية …ولا عيب أن تزكي الأحزاب التوجهات الاستراتيجية للدولة، ولكن المحظور أن تتحول إلى مجرد صدى بل تابعا، والمطلوب أن تكون قوة اقتراحية …والحال أن دور الأحزاب اقتصر على ما يسمى بالتقاط الإشارة، وانتظار الضوء الأخضر. وهي بافتقادها للمبادرة لا تخدم لا المجتمع ولا الدولة .أحزابنا غائبة عن القضايا الجوهرية، كما التعليم، والصحة ودور الدولة في القطاعات الاجتماعية وحقوق الإنسان، ولا حتى السعي لفهم التحولات العالمية الكبرى. السجال جزء من العملية السياسية، ولكن السجال ليس بديلا عن النقاش، ولا عِوَضا عن الدراسة، ولا التأطير…
حدثت أشياء إيجابية بداخل الأحزاب، ومنها تجديد قياداتها، ولم تعد كما كان سابقا مرتهنة لـ“الزعيم“، ولكن بنيات الأحزاب لم تتغير، وثقافتها لم تتبدل. ولم تسهم قياداتها في نقاشات عميقة أو رسم توجهات استراتيجية، ونالت حظا من الاهتمام الإعلامي بقدر إسهامها في قفشات أو نوادر، لا من حيث الرؤى والبرامج.
الأحزاب كما قال قياديون، عن صواب، ليست ثكنات عسكرية …من شأنها أن تخضع لدينامية، ومن شأنها أن تتطور وتغير رؤاها، حسب ما يعِن من مستجدات وما يطرأ من تطورات داخلية أو خارجية، ولكن ذلك يجري في دائرة النقاش، والتحليل، وليس عبر صخب إعلامي أو خطابات تبريرية، أو التهجم على الأصوات النقدية، والزعم بمحدودية تأثيرها .قوة الأفكار لا تقاس بمقياس العدد، ولكن بمدى صوابها ودامغ حجبها وثاقب رؤاها. ليس هذا الحديث إزراء بالأحزاب، بل دعوة لها لمواكبة التغييرات العميقة التي اعتملت في جسم المجتمع المغربي. ولا شك أن ظروف جائحة كورونا حدت من دورها، لكن ذلك لا يقوم ذريعة كي تتوارى في مرحلة مفصلية من تاريخ البلد، مع التغيرات العالمية الكبرى. الطبيعة تأبى الفراغ، والأحزاب أدوات لا مندوحة عنها في الهندسة الدمقراطية، وهي تعتمد الحوار والإقناع .مدار الدمقراطية هو المساومة، والحلول المعقولة، عوض الشارع الذي يعتمد على المزايدة والتوجهات القصوى، ولا ينتهي لشيء. ليس الشارع وصفة محمودة، ولا هو أدى، حيث فار، إلى نتائج إيجابية .نتمنى أن يصل هذا النداء إلى آذان صاغية، ويدعوها ذلك إلى مساءلة الذات، بداخل الأحزاب، عوض التهجم أو التبخيس. من أجل مصلحتها، ومصلحة الوطن.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير