هل كان يتصور أن ينجح مارتن لوثر في دعوته لإصلاح الدين المسيحي لولا حماية الملوك والأمراء له من بطش الكنيسة؟ أكان من الممكن أن تتخلص أوربا من ظلم القساوسة وأكلهم لأموال الناس بالباطل وأن يتغير تاريخها الحديث لولا تأييد الأمراء له بغية التخلص من نفوذ الكنيسة عليهم، سيما وأن مارتن ناور بدعم الملكية وضرورة استعادتها لسلطتها.
في عالمنا الإسلامي، باستقراء بسيط لكل حركات الإصلاح الديني منذ القرون الأولى يمكننا الوقوف على أن مآلها كان هو الفشل.
لا يمكن، برأيي، لأي حركة إصلاح ديني أن تحقق نجاحا في الإقناع بأفكارها، واختراقها للمجتمعات ما لم تكن مدعومة من الحاكم وسياساته، وإلا كان نصيبها الانحسار مهما كانت جاذبيتها كما حصل في تجارب كثيرة، حيث كانت علاقة الفقيه بالسلطان متوترة وأحيانا عدائية.
لست بصدد مقارنة تجربة لوثر بما وقع عند المسلمين، لاختلاف السياقات التاريخية، فالمسلمون في بداية عهدهم لم يكن لهم علم بمفهوم الدولة إلا بعد عقود من الزمن، وكان منطق القبيلة والتحالفات سيد الموقف، كما في بيعة الخلفاء الأربعة، ولم يعرف المسلمون معنى السلطنة والسلطان إلا مع معاوية بن أبي سفيان وبني أمية.
ومع أن معاوية نفسه كان محسوبا على الفقهاء، إلا أنه مع ولاية حكمه بدأت تظهر ملامح التفريق بين الفقيه والحاكم، وبين السياسي والديني. بلغ الأمر حد التنافس والتمرد أحيانا، كما في موقعة دير الجماجم حين ناصر جمع كبير من الفقهاء ابن الأشعث في ثورته على الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد كان لفشل الفقهاء في هذه الثورة أثر في اختيار الكثير عدم التعرض للسلاطين، بل وتحريم الخروج عليهم ومنابذتهم الحكم.
ومن الطبيعي، أيضا، مع فعل السلطة أن يكون هناك مؤيد ومعارض في مختلف مجالات الحياة. لكن مع طغيان الديني على المشهد وعمقه في المجتمع، نشأت ثقافة المعارضة السياسية التي وظفت اللافتة الدينية ووضعت رجال الدين في المقدمة لقدرتهم على التعبئة والتحريض، وهنا نشأ ذلك التفريق بين فقهاء موالين للسلطة ومعادين لها، وحاول كل طرف دعم موقفه بما يناسبه من المرويات، فتضمنت كتب الحديث والآثار النهي عن إتيان السلاطين، «شر الأمراء أبعدهم من العلماء وشر العلماء أقربهم من الأمراء»، «ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن لهم عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا»، وغيرها مما فيه دعوة لتجنب السلطان ومجالسه.
بل تطور الحال إلى أن يصبح تصنيف الفقيه من غيره مبينا على قربه من الحاكم أو بعده عنه، «إذَا رَأَيْتُمْ الْعَالِمَ يَغْشَى الْأُمَرَاءَ فَاحْذَرُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ لِصّ»، وبلغ هذا الانقسام أوجه مع ما عرف بفتنة خلق القرآن، وأصبح أحمد بن حنبل إماما لأهل السنة والجماعة، ليس لغزارة فقهه، فكثير من معاصريه ومن بعدهم لا يعدونه من الفقهاء، وإنما مجرد راو وجامع للأحاديث، وإنما بسبب موقفه من الحاكم ومذهبه الاعتزالي.
لكن في مقابل ذلك، اختار كثير من الفقهاء العمل مع السلطان وخدمته، بل كانوا يثمنون هذه العلاقة، ويرونها واجبا عليهم من لله، قياما بالمصلحة وتحقيقا للأثر، وتلك هي الصفحة التي أريد تغييبها عنا من التاريخ، خصوصا مع بروز حركات الإسلام السياسي، والتي حاولت توظيف مفهوم “علماء السلطان” لنزع الشرعية عن فقهاء الأنظمة التي كانوا يعادونها، حتى ساد التصور عند الناس بأن كل علماء المسلمين كانوا معارضين “قوالين بالحق”، «لا يخافون فيه لومة لائم».
والغريب في عملية التدليس هذه، أن الضفة الأخرى من فقهاء السلاطين تضم أسماء كبيرة تعتبر عند الجميع، بما فيها تلك الحركات، مرجعية للأمة ورأسا لها، يكفي ذكر ابن شهاب الزهري إمام الحديث في عصره والذي كان رئيسا للشرطة في عهد بني أمية على ظلمهم وجورهم في الحكم، أو الأوزاعي وهو صاحب مذهب فقهي متبع وقد كان يدخل على الحاكم وينال من عطاياه، بل حتى مجلس الحجاج بن يوسف الثقفي مع سفكه للدماء لم يكن يخلو من بعض الصحابة وكبار التابعين، ولم تخل قصة بن حنبل من فقهاء موالين للحاكم مؤيدين له كأحمد بن أبي دؤاد الذي كان فقيها ورعا ليس بالسوء الذي تصوره الروايات السلفية.
خلاصة القول إننا نحتاج للفصل بين فقه الرجل ومعرفته، وقربه وبعده من النظام السياسي، كما نعامل المتنبي ونعتبره نبي الشعراء، مع أن في شعره الكثير من التملق والتزلف للأمراء، على أن التاريخ ما يزال يذكرنا بأن الأفكار لا تجد سبيلها للنجاح، وأن اختراق المجتمع لا يكون إلا بتوفر الإرادة السياسية وتحالفها مع المشاريع الإصلاحية، وهي دعوة للمؤسسات الرسمية الدينية أيضا للانخراط في هذه الأوراش لما فيه تحقيق المصلحة العامة، والقضاء على عوائق الانبعاث والتقدم.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي