نادرا ما توفرت شبكات التواصل الاجتماعي على محققين واقعيين، كما يحدث الآن. هكذا، تصلها، يوميا وحتى التخمة، أخبار غير مسبوقة مدعومة بصور وفيديوهات، بما يمكن تأثيث مشهد سياسي كئيب وممل، أصبح غير قادر عن الإجابة على الفائدة الإيجابية في ممارسة السياسية بالاعتماد، فقط، على حسن نية ومصداقية فاعليها المعنيين .تتعدد القضايا وتتشابه لأنها تنبع من نفس عين المشهد السياسي الوطني .ربما خمنتم أن الأمر يتعلق بإسلاميي حزب العدالة والتنمية، الموجودين في السلطة، منذ ولاية تشريعية ونصف .لنكن أقرب من الحقائق، دعونا نمضي في ترتيب زمني، حتى لو كانت الشخصيات النشطة أكثر تكيفا من غيرها، مع قوانين وسائل الإعلام والمواضيع المقترحة للمناقشة.
بدأ الأمر بالمعاش التقاعدي التكميلي “الاستثنائي“ الذي مُنح لعبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة والأمين العام للحزب السابق .تبلغ قيمة التقاعد 9 ملايين سنتيم شهريا، نعم 9 ملايين سنتيم. خلق الرقم ضجة كبيرة، وجعل أصحاب معاشات التقاعد الصغيرة والمتوسطة يقارنون بين الأرقام مع تصاعد أسعار تكاليف المعيشة. ثم سرعان ما اشتعل النقاش، من جديد، حول انهيار الطبقة المتوسطة التي أصبحت في الطريق للالتحاق بمواطنيها في أسفل الهرم الاجتماعي. في الوقت الذي لا يمكن نكران الدور الذي تلعبه هذه الطبقة في الاستقرار الاجتماعي–السياسي .إنه يتعرض للتقويض الآن.
يجب العودة قليلا إلى الوراء، لإنعاش الذاكرة، واستحضار حقائق مرت في صمت .ما يزال الكثيرون يستحضرون المعارضة الشرسة لبن كيران لمشروع القانون حول تقاعد الوزراء، الذي أعدته حكومة عبد الرحمان اليوسفي ودافع عنه فتحا لله ولعلو وزير المالية حينئذ.
طبع تدخل بنكيران، في مجلس النواب عام 2001 ذاكرة المغاربة، مستشهدا بحديث مأثور منسوب إلى الصحابي عمر بن الخطاب «قرقري أو لا تقرقري، لن تذوقي اللحم حتى يشبع أطفال المسلمين».
لكن بمجرد وصوله إلى السلطة، دافع بنكيران ذاته بنفس الشراسة عن مشروع قانون يقترح تقاعدا مماثلا للذي عارضه في الأمس .لقد أكد هذا القيادي الإسلامي أن السياسات لا تستقر على حال، وتتغير بانتقال أصحابها من موقع إلى آخر .ومن حسن حظ الجمهور الواسع أن تكنولوجيا الإعلام السمعي–البصري لم تعد صديقة للسياسي الذي يغير مواقفه كما يغير جواربه.
فقد سبق لبنكيران ذاته أن شدد على ضرورة أن يشتغل موظفو الدولة وقتا أطول حتى يطالبوا بمعاش أقل مما كان يتقاضاه سابقوهم .كان في الصفوف الأولى للدفاع عن هذا الخيار “المارق“ .قبل أن يجد، فيما بعد، أن راتبه الأساسي لا يكفي لتغطية مصاريفه المنزلية والالتزام برد ديونه .حتى نصدق أنه لم يكن في الشارع لكنه كان على حافته. ثم خرجت الدولة، بهالتها المطلقة، لإنقاذ الرجل المغلوب على أمره. كأنها تقول إن بنكيران ابتلع الكثير من الثعابين أو ابتلعته، خاصة في المجال الاجتماعي حين كان رئيسا للحكومة، وأن له الحق في الاستفادة من صندوق تقاعد حتى وإن كان يعاني من غياب السيولة، إن لم يكن دخل في مرحلة إفلاس مبرمج .في النهاية، اكتملت الدائرة، وما هو حلال لدى البعض ليس كذلك بالنسبة للآخرين. على كل، لا تبدو سماء السنة الجديدة، التي بدأت للتو، مشرقة في أعين الإسلاميين .ففي يناير الماضي، تداولت صحف إلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي صورة لنائبة برلمانية، بلباس عصري وبدون حجاب، وهي تقف قبالة كباريه «مولان روج» الشهير في باريس .صورة من شأنها أن يتردد صداها، طويلا، في آذان رأي عام حائر، ومعه الإسلاميون الذين لم يصدقوا ما رأت عيونهم: “برلمانية بدون حجاب؟“ .لم يخف دعاة “الإسلاموية“ الشاملة غضبهم، واعتبروا الأمر استفزازا. كان عليها أن تجد وسيلة للإبقاء على الحجاب أو مغادرة الجماعة .في أوساط العدل والإحسان، كان هناك من يضحك تحت عباءته، ساخرا من “العدالة والتنمية“ الذي تعرض للخيانة من طرف أبرز أعضائه، ومعتبرا أن الأمر ما هو إلا بداية لغرق سياسي مُعلَن .ناخبو أمينة أحسوا، أيضا، أنهم تعرضوا للخداع، لا سيما أن منتخَبَتهم راكمت عددا من المسؤوليات، ما يعني مراكمة الكثير من التعويضات. في المقابل، ساندها بعض إخوانها، على رأسهم بنكيران، معتقدين أن الأمر يتعلق بالحرية الشخصية التي لا تتعارض، بالضرورة، مع نضالها السياسي وفي هذا الإطار، يدرجون المغامرات الحميمية لوزيرهم في الشغل، وهو يمسك بيد امرأة شابة، ويسيران برومانسية في شارع شانزيليزي في مدينة الأنوار .يمكن التصديق، إلى حد ما، أن نشر أخبار صور لقياديين إسلاميين، تتناقض مع مواقفهم المعلنة، ما هي إلا هجمات لتصفية الحسابات ضد العدالة والتنمية والطعن في حقيقة مرجعيته الدينية. لكن مهما كان، يمكن القول إن هاته المغامرات تعبر، في العمق، عن انزعاج منتشر في صفوف الحركة السياسية–الدينية.
وفي النهاية، تحولت نقطة قوة العدالة والتنمية، التي كانت بكل تأكيد هي الخطاب الديني، إلى نقطة ضعفهم. وهنا يمكن إضعافهم أكثر .بل إن هؤلاء السياسيين يعرضون أنفسهم للإحراج من خلال مواقفهم المنفصمة، حيث يعيشون ازدواجية الشخصية بسهولة.
سيكون من المناسب أن نوصيهم بزيارة عيادة طبيب نفساني غير عادٍ، من طينة فرويد، لكن يجب أن يكون مغربيا، يعرف المغرب والمغاربة جيدا.
في الواقع، إن ما يشوه اللعبة الديمقراطية والحياة السياسية في المغرب هو، في الحقيقة، التداخل بين السياسة والدين .والحال أن استحضار الدين للدفاع عن عمل سياسي أو معارضته هو أكثر ضررا في ظل ديمقراطية قيد البناء، مثل ما يقع عندنا .وهذه حقيقة، يصعب فهمها في بلد مسلم، كالذي نعيش فيه.
يوسف شميرو
مدير النشر