الويل لأمة تنسى أمجادها وأحداثها الكبرى. فقد كنت واحدا، من بين آلاف المغاربة، الذين شاركوا في مسيرة ولد زروال، وكم يحز في نفسي كل هذا الصمت الذي تواجه به اليوم. وكم بكيت وأنا أحتفل بذكراها لوحدي في شهر شتنبر الذي ودعناه، وكلما تذكرت تلك الملحمة، وتلك القشعريرة التي كانت تنتابني، وتلك الهبة الشعبية التلقائية ضد “أخننة” الدولة، وتلك الكهرباء التي كانت تصعقني، والنابعة من تماس حب الوطن، تنزل دموعي على خدي، وأنتحب، وأتساءل عن سبب هذا الإصرار على إدارة الظهر إلى واحدة من الصفحات المشرقة في تاريخ المغرب الراهن. فلم يكن يخامرني شك أن ذكراها ستتحول إلى عيد وطني، وإلى عطلة رسمية، وإلى احتفالات في كل مكان، لكن لا شيء من هذا حدث للأسف، ولا خبر في التلفزيون، ولا برامج حوارية تستحضر أمجادها، وتستضيف أشخاصا شاركوا فيها، ليستفيد منهم النشء الصاعد. وأتذكر ما وقع كأنه حدث اليوم، حين جئنا من كل مدن وقرى المغرب، نساء ورجالا وأطفالا، راكبين الحافلات والسيارات، وبعضنا جاء مشيا على الأقدام، من أجل هدف واحد، هو إخراج عبد الإله بنكيران من صحرائنا الغالية، ثم وأنا أتذكر ذلك، أحس بغصة في القلب، وبمرارة، وبشعور بالخذلان، من مغرب رسمي، يتنكر لأبطاله، وللشعب الذي وقف وقفة رجل واحد، ولبى نداء غامضا، لم يصدر عن أي جهة، ولا عن أي حزب، رغم أنهم فتشوا وبحثوا وسألوا، ولم يجدوا شيئا، لأنه ببساطة، كان نداء صادرا من القلب، ومن حشاشته بالتحديد. ولم نكن نعرف بعضنا، ولم يسأل أحد منا الآخر من أين جئت، ومن جاء بك، لكننا، ودون أن نشعر، كنا نرفع بعضنا على الأكتاف، ونصدح بالشعارات، ونهتف بملء حناجرنا، ونغني، ونحذر العالم من بنكيران، ومن حزبه. ولا شيء كنا سنخسره، نحن الذين نحتفل في المغرب بمناسبات وأعياد لا تعد ولا تحصى، لو أضفنا عطلة رسمية تخليدا لذكرى مسيرة ولد زروال، كي تبقى موشومة في الذاكرة، ودليلا على عظمة هذا الشعب، وهذه البلاد، وكي تتعرف الأجيال القادمة على تاريخنا المجيد، وعلى تضحياتنا، فتبني على أساسها هويتنا وشخصيتنا المغربية المشتركة، ولولا مقالي هذا، لكانت “زمان” هي الأخرى، متواطئة مع كل هؤلاء الذين يسعون إلى اغتيال ذاكرتنا الجمعية، ودفن هذه الملحمة، معولين على معول النسيان، ليفعل فعله، رغم أن المجلة مختصة، يا حسرة، في تاريخ المغرب، لكنها لم تأخذ على عاتقها، مسؤولية النبش، والتأريخ، ولم تنتبه، وبشكل يدعو إلى الريبة، إلى ذكراها، التي مرت قبل أيام، في ظل صمت رهيب. كنا يوم المسيرة متحمسين، وكان عرق يتصبب منا، ورغم أن البعض حاول أن يسيء إلينا، وأن يشكك في دوافعنا، فإنه، ومع مضي سنة، ومع أخذ المسافة اللازمة من الأحداث التي تلت المسيرة الخالدة، لا يمكن لأي شخص محايد ونزيه، إلا أن يعترف بالدور الكبير الذي لعبناه، في وقف زحف أخننة الدولة، وإنقاذ المغرب من خطر داهم، ومن وحش مفترس، كان على وشك أن ينقض عليه. ورغم كل هذا التعتيم، ورغم تنكر الجميع لنا، بمن فيهم من دعمنا في البداية، ورغم لا مبالاة الجهات الرسمية، وعدم احتفالها بالذكرى الأولى للمسيرة، فإننا نعتز بما حققناه، ونفتخر أننا ساهمنا في طرد بنكيران، وأن تعبنا وتلبيتنا لنداء الوطن لم يذهبا سدى. ولن أنسى ما حييت، تلك اللحظة، التي كانت أشبه بصلاة، حين كنا نردد ارحل يا بنكيران، ديكاج، لا للإرهاب وننشد الأشعار، ونمزق الصور، وندفعه دفعا إلى أن يذهب، ونصيح فيه «اخرج من أرضنا، من برنا، من ملحنا، من جرحنا، من صحرائنا، من كل شيء، واخرج من مفردات الذاكرة». ومضت الأيام، وأنقذنا المغرب من الذين كانوا يخططون لأخننته، فعادت الطمأنينة إلى المواطنين، وعاد الاستقرار والأمان، بل اقتنع حتى الذين كانوا مع رئيس الحكومة السابق، والذين كانوا يضمرون سوء النية، ويتربصون بنا، بعد أن عادوا بدورهم إلى جادة الصواب، وأنصفوا مسيرة ولد زروال، وهم الآن يناضلون من أجل أن يتخلصوا منه، ويطردوه من صحراء حزب العدالة والتنمية، رافضين التجديد له، بعد أن اكتشفوا حقيقته، وها نحن نعيش في سلام ووئام، لا أحد يؤخنننا، ولا خطر يتهددنا، بعد أن زال أصل الداء. وسوف يأتي وقت يعترف فيه المغاربة شعبا ودولة بفضل هذه الملحمة، وتصبح ذكراها عيدا وطنيا نحتفل به جميعا، وفي انتظار ذلك، أحتفل بها وحدي، وأحتفي بكل الذين شاركوا فيها، وأرميهم بالورود، وأوقد شمعة، وأذرف دموعا غزيرة، وأفتخر بأني كنت هناك، وسط تلك الجموع، مساهما بنصيبي في خدمة بلدي، وهي مناسبة، لأقول لها سنة حلوة يا مسيرة، وكل ذكرى، وأنت بخير، وأنه سوف يأتي وقت يعيدون لك فيه الاعتبار، وليس في المغرب فحسب، بل في كل العالم.
حميد زيد