يستعرُّ السجال مرة أخرى حول لغات التدريس، ولو بدرجة أقل مما عرفه في فترات سابقة، لا لأن أصحاب خطاب الهوية ضعُفوا أو وَهنوا، بل لأن الواقع لا يرتفع، وهو حال تعليمنا، وهو نتاج السياسات الارتجالية والترقيعية التي انتُهجت وأفضت إلى ما نحن فيه .ومن السهل جدا الرد على من انتصبوا مناهضين لتدريس المواد العلمية باللغات الغربية، لكن لا نود السجال، ونريد التفكير المتأني الذي يخدم المدرسة المغربية والمغاربة، ويبوئهم ما نرتجيه كلنا من رقي وعزة، والانخراط في التجربة الكونية، وإلا بقينا على الطُّرة، ندغدغ أنفسنا بخطابات الهوية والنرجسية القاتلة، لا يأبه بنا أحد، إلا لما قد نثيره من ضجيج وتناحر وتنافر، وهو ما لا نريد.
الغاية من تعلم المواد العلمية باللغات الأجنبية هو اكتساب العلم، أو نقله إلينا، من مظانه، لا لأن اللغة العربية قاصرة في حد ذاتها، (ليست هناك لغة قاصرة)، بل لأنها لم تعد تنتج العلم ولا التقنية (أو على الأصح بنوها)، وقد كان يجوز التغلب على هذا الوضع لو أتيح لعملية الترجمة أن تنجح، إلا أنها لم تنجح، سوى ما عُرف لفترة من جهود محمودة لماهدين كانوا مالكين لناصية اللغة للعربية، حاذقين للّغة الأجنبية، على إلمام بالمواضيع التي يترجمون لها، وحاملين لرؤية ومشروع، وهذه الشروط أصبح من العسير توافرها، فضلا عن استشراء الهاجس التجاري والسرعة في عمليات الترجمة، مع ما يستتبع ذلك من عدم دقة، وترجمة حَرفية لا تراعي عبقرية اللغة العربية .لو قال قائل بأن نستغني عن العربية جملة وتفصيلا، ونستبدلها في كل مواد التدريس باللغات الأجنبية، لقمنا مع من أخذتهم العزة، لاعتبارات موضوعية، ونددنا بهذا الخيار .ولو قال قائل بأن الفرنسية وحدها لغة العلم، ولا يتاح للغة سواها أن تزاحمها، لنفرنا مع النافرين. فلغة العلم ولغة العالم هي الإنجليزية، وهو أمر لا ينتطح فيه عنزان كما يقال، أو من باب الشمس فوقنا، إلا أننا لا يمكن أن ننتقل إلى ذلك بقرار، ذلك أن هناك واقعا لا يمكن أن نقفز عليه، وهو ميراث اللغة الفرنسية ببلادنا وحضورها الثقافي والسوسيولوجي. نتعامل مع هذا المعطى الموضوعي، ونوظفه لصالحنا. هل من المنطق في شيء أن يَدرس التلميذ العلوم حتى الثانوي بالعربية، فإذا بلغ الجامعة تحول إلى الفرنسية، مع ما يُحدثه ذلك في ذهنه من اضطراب وعدم إدراك؟
والمشكل ليس فقط في تعليم العلوم باللغات الأجنبية التي لا مندوحة عنها، ذلك أن كل شخص خبر قضايا التربية، وتصدى للموضوع بنظرة علمية لا مكان فيها للهوى ولا للإيديولوجيا، سينتهي إلى مشكل عويص هو سوء طريقة تعليمنا للغات، بما فيها العربية. فكثير ممن لزموا المدرسة يحسبون أنهم يتقنون العربية لا لشيء إلا لأنهم لهم معجما عربيا لا بأس به، واختلفوا على المدرسة، ويفهمون ما يقال لهم، ويدركون ولو بالتقريب ما يقرؤون. والعربية ككل اللغات، لها عبقرية، ولها قواعد لا يمكن استبطانها من دون تعلم وجهد أو دُربة، ويحز في النفس أن كثيرا ممن ينتصبون مدافعين عنها، من السياسيين بل حتى من بعض النشطاء لا يحسنونها، ويسيؤون لدعواهم بعدم إتقانهم لها. والذي يهمنا هو إعادة النظر في تدريس اللغة العربية، لأنه لا يمكن أن نركنَ للأساليب القديمة التي كانت سارية في التدريس وتروم بلوغ ما يسمى بالمَلكة والسليقة. انتهى كل ذلك، وينبغي أن نُعلم العربية وفق قواعد جديدة عصرية وغير منفرة. وذات الشيء يقال عن الفرنسية، إذ كيف يُعقل أن يمضى تلميذ عشر سنوات وهو يدرس الفرنسية، ثم لا يحسن الحديث بها، ولا يستطيع أن يقرأ بها. وقل ذات الشيء عن طريقة تدريس الإنجليزية إذ تُصرف جهود عقيمة في تلقي مبادئها الأولى، ثم يُنصرف عنها بعد الثانوي. ولا أود أن أزج بالأمازيغية في هذا الحديث، حتى لا يُحتج علينا بالتعصب والنقمة من العربية، وما شابه ذلك من الأحكام المجانية.
إن تعليم المواد العلمية باللغات الأجنبية، ومنها بالفرنسية، ليست الغاية منه الدفاع عن الفرنسية، ولا الحنين للعهود الاستعمارية، ولا الانخراط في لوبي فرانكوفوني، (ولا أدري في العمق ماذا يعني اللوبي الفرانكوفوني، وإن كنت أفهم وجود بنية تقنقراطية)، وإنما اكتساب العلم، ونقله إلى الناشئة والمتعلمين. قرأت قبل أيام لصحافي واسع الحضور، مقالا يستشهد فيه بماكس فيبير وقولته الشهيرة Désenchantement du monde ويترجمها بعالم لا غِناء فيه، مما يدل على عدم فهمه للمقولة لأنه غير متمكن من الفرنسية، وهي تعني من دون سِحر. ولا أرى، بعد التجربة، أننا نستطيع أن نستغني عن الفرنسية والإنجليزية في العلوم الإنسانية، فما بالك في العلوم الدقيقة.
نُكبر للذين انتصبوا مدافعين عن اللغة العربية حَميتهم، ولكن نريد منهم أن تأخذهم العزة بالعلم والموضوعية للارتقاء بتعليمنا، ونرجو ممن يخوض في هذا الموضوع أن يدع جانبا الإيديولوجيا، فهي التي أساءت إلى أمم، ونريد أن نبرأ منها وتعلاّتها، لصالح المغرب والمغاربة. وإن نحن انتقلنا إلى العلم وانتقل العلم إلينا، فسيكون من اليسير أن ننقله إلى العربية، وإن نحن لم نمتلكه، فلن نفيد العربية في شيء. أليس ذلك فحوى ما ورد في الحديث: «أطلبوا العلم ولو في الصين»؟
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير
حسن اوريد سيشهد له التاريخ بروحه الوطنية العالية .و لولا رجال صادقين غيورين كهذا الرجل لفعل البعض بهذا الشعب ما لم يفعله مستعمر . أما المشككين “فذرهم في ريبهم يترددون ”
التعريب ضيع على جيل بكامله فرصة مسايرة عجلة التطور التكنولوجي الحديث .
أعيدوا لهذا الجيل التلفزة المدرسية و خصوصا تعلم الانجليزية .