زارت لجنة تابعة لصندوق النقد الدولي المغرب مرتين في ظرف زمني لا يتجاوز الستة أشهر، بين بداية السنة الجارية ومنتصفها. واعتبرت أن الاقتصاد المغربي دخل مرحلة مقلقة تستدعي تدخلا عاجلا لإصلاح الصناديق الكبرى، خاصة المقاصة والتقاعد وضرورة تقليص حجم الاستثمارات العمومية، إن هو أراد الاستفادة من خط السيولة الائتماني.
والواقع أن هذا الحراك، وهذا النصح المستبطن للتهديد مرتبط بأمور وقعت منذ أزيد من قرن ونصف عندما انطلق مسلسل الاملاءات الخارجية خلال منتصف القرن التاسع عشر فانتهى بالمغرب إلى وضع الدولة المحمية، ثم عاد في حلة جديدة بعد حصول البلاد على استقلالها مكرسا نهج التبعية للخارج.
فلغة “الإصلاحات الاقتصادية” تحت التهديد انطلقت عمليا منذ التاسع من شهر دجنبر سنة 1856حين وجد المغرب نفسه مجبرا على توقيع معاهدة مع بريطانيا أصابت سيادته على اقتصاده في مقتل، من خلال إجباره على الانخراط في منظومة اقتصادية دولية بنفس استعماري لم يكن مهيئا لها، والتحكم في تجارته الخارجية وسقف عائداته الجمركية. ألم يلوح المفوض البريطاني جون دراموند هاي لسلطان المغرب بازدهار اقتصادي لبلاده شبيه بنظيره الأمريكي بمجرد تطبيق “الوصفة الإصلاحية” المقترحة؟
ولأن هذا “الإصلاح” فرض من الخارج ولم يأت نتيجة مطلب داخلي في سياق تراكم منتج انتهى بعكس النتائج المرجوة، مما اضطر المخزن إلى الدخول في سياسية الاقتراض، فكان قرض سنة 1904 إيذانا برهن مصير البلاد الاقتصادي بشروط ومشاريع بنك باريس والأراضي المنخفضة. ثم جاء مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 لتوزيع كعكعة المغرب الاقتصادية على الدول المشاركة فيه.
ولما خضع للحمايتين الفرنسية والاسبانية انتقل اقتصاده بالنسبة للأولى من تقليدي إلى مزدوج: أوروبي/ عصري و”أهلي”/ تقليدي، وبالنسبة للثانية لم يشهد استثمارا جديا يخلق التحول.
حلت سنة 1956 وحل معها التردد في الحسم بين خيارين الأول يقول بأن الواقعية في التدبير تقتضي عدم التسرع في مصادرة أراضي المعمرين والاستفادة من الاستثمارات الأجنبية في المغرب تفاديا للانهيار الاقتصادي والضائقة المالية، أما الخيار الثاني فيرى أن استقلال البلاد سيظل مبتورا ما لم يستكمل بالتحرر الاقتصادي الذي سيمكن المغاربة من الاستفادة من خيرات بلادهم التي صادرها المستعمر في السابق.
استمر هذا التردد مع مسعى للتوفيق بين الرأيين ترجمه المخطط الثنائي58-59 لحكومة بلافريج، ثم جاء المخطط الخماسي الأول60-64 لحكومة عبد الله إبراهيم بنفس تحرري ما لبث أن أجهض بعد إقالة هذه الحكومة في منتصف سنة 1960. فهل أخطأ الاقتصاد المغربي موعده مع التخلص من شرنقة المهماز الخارجي خلال هذا القوس الذي سرعان ما أغلق؟ أم أن الواقع كان أكثر عنادا من هذا الطموح؟
مهما يكن من أمر فواقع الحال يقول بسيادة نوع من الارتباك في التدبير مع مطلع الستينات (الاقتصاد المختلط) انتهى إلى الإقرار بالكارثة الاقتصادية التي تتهدد البلاد للمرة الأولى سنة 1963، وتمت الاستعانة بخبراء البنك الدولي الذي حلوا بالمغرب في ربيع سنة 1964 وأصدروا تقريرهم بناء على طلب الحكومة المغربية في سنة 1966 تحت عنوان “التنمية الاقتصادية في المغرب” في 356 صفحة.
إذا كانت هذه الدراسة التشخيصية قد جاءت تحت الطلب وبطابع المشورة فإنها مع ذلك اعتبرت بمثابة متكأ لاختيار اقتصادي “ليبرالي” سيجد نفسه بعد عشرين سنة من هذا التاريخ مجبرا على الإصغاء لتوجيهات المؤسسات المالية الدولية، وينخرط في نهج سياسية التقويم الهيكلي ذات التداعيات الاجتماعية القاسية، في وقت خرج فيه المغرب للتو من انتفاضتين شعبيتين متتاليتين سنتي 1981 و1984، وهو ما يعني أن صانع القرار الاقتصادي صار محكوما بتوجيهات الخارج بصرف النظر عن حيثيات الوضع الداخلي، في زمن يفتقد فيه للتحكم في المؤشرات التي يبني عليها توقعاته (المناخ ، قيمة الدولار، أسعار البترول، أسعار الفوسفاط، تحويلات العمال المغاربة بالخارج، عدد السياح…). فعادت المؤسسات المالية الدولية بعد عقد من الزمن لتنذر بدنو البلاد من السكتة القلبية.
بين وصفتي دراموند هاي سنة 1856 وكرستين لاغارد سنة 2013 لإصلاح الاقتصاد المغربي استمر مسلسل التبعية والإملاء الخارجي، ضمن سياق تراكم شارح للكيفية التي انتهت بها اللجنة التابعة لصندوق النقد الدولي المكلفة بتقييم الاقتصاد المغربي إلى الضغط على الحكومة للقيام بإصلاحات هيكلية، والذهاب إلى حد التهديد بتجميد القروض في حالة عدم أخذ المبادرة.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير