تبنى مجلس الأمن يوم 29 أبريل الماضي بالإجماع التقرير السنوي بخصوص تمديد بعثة الأمم المتحدة، المينورسو، إلى الصحراء المغربية، وذلك لولاية تمتد لغاية 30 أبريل 2015. وصار هذا الموعد السنوي مناسبة لرهانات دبلوماسية تعتمد صيغا وآليات مختلفة، فبينما يسعى المغرب إلى دفع مقترح الحكم الذاتي، الذي تم الاعتراف بجديته أمميا، إلى مداه كحل للأزمة، تناور جبهة البوليزاريو لتكريس مبدأ تقرير المصير على مقاسها كحل تراه ديمقراطيا. وقبل العودة لموضوع الحكم الذاتي وعلاقته بمشروع الجهوية الموسعة، لا بأس من التوقف مع تيزفطان تودوروف عند إشارته إلى أن العبارة التي تنادي بـ«حق الشعوب في تقرير مصيرها» لا تحمل معنى محددا بحد ذاتها، فهي تفترض أن الشعوب كانت موجودة قبل الدول، وهذا وهم وفق تحليله، لاسيما حين يدقق معنى الشعب ويطرد الالتباس الحاصل بين الأراضي والشعوب والدول. ويصل في نقاشه إلى تبيان غرابة هذا الطرح عن العقل الديمقراطي. في سنة 2007 قدم المغرب مبادرته للتفاوض بشأن الحكم الذاتي لحل المشكل العالق في صحرائه، ثلاث سنوات بعد ذلك تم تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية. والتي قدمت بعد ذلك تقريرها القاضي بتقسيم المغرب إلى اثنتي عشر جهة، في تفاعل منتج مع فكرة تطبيق جهوية موسعة بالصحراء المغربية.
يوم قرر السلطان المولى الحسن توزيع العمالات الكبرى (22) إلى إيالات صغرى (330)، تزامن الأمر مع تحرك انجليزي مشبوه لإيجاد موطئ قدم في الصحراء من خلال شركة مكينزي. فبادر السلطان إلى تعيين الشيخ ماء العينين قائدا للمخزن على الصحراء وواد نون، وجاء في ظهير توليته بتاريخ 12 ربيع الثاني 1296هـ/ 5 أبريل 1879م: «يعلم من كتابنا هذا أسماه لله وأعز قدره وجعل في الصالحات طيه ونشره، أننا استولينا بحول الله وقوته وشامل يمنه ومنته لحامله سيدي محمد بن فضل ماء العنين السوسي الصحراوي تولية تامة شاملة على بلاد بني بعمران بسوس الأقصى، ومن ورائهم بني جرار، وفوقهم من الجزوليين قبيلة بعد قبيلة مع الأعرابيين بالصحراء، كلهم من بني بعمران إلى وادي نون، إلى الساقية الحمراء للطرفاية إلى منتهى العمارة من ايالتنا لتلكم البلاد (…) وأن الفقيه الشريف المذكور استوليناه عليهم ليكون نائبا عنا عليهم تولية شاملة شرعية بحمد الله». ثم أعقب ذلك بحركتين سلطانتين إلى المنطقة سنتي 1882 و1886. خلال هذه الفترة كان التدبير المخزني لشؤون قبائل البيعة، أي التي وسمتها السوسيولوجيا الكولونيالة ببلاد السيبة، وهي قبائل البلاد القاصية أو المتحصنة بالجبال التي تبايع السلطان ولا تدفع له الضرائب، يقوم على مبدأ إضفاء الطابع المخزني الرسمي على سلطة محلية واقعة وسابقة على التعيين، فيعطي بذلك الصبغة الرسمية لهياكل المؤسسات المحلية. هذه المرونة في التعامل، وهذا الهامش المتروك للتدبير الذاتي المحلي شكل أداة فعالة في التدبير والحكم لقبائل لم تتردد في مبايعة السلطان وإقامة الصلاة باسمه، في بلاد عمل المجال على حرمانها من إنتاج زراعي يفي باحتياجاتها الغذائية، و يفضل منه ما يمكن أن تدفعه للمخزن على سبيل الجباية، وساعد نفس المجال في منحها آلية للتحصن من أن تطالها الأحكام المخزنية وتخضعها بالقوة.
لما أصبحت الحماية الفرنسية أمرا واقعا بالمغرب عمد ليوطي سنة 1919 إلى توزيع مجالي بهواجس عسكرية محكومة بشعار «التهدئة»، فظهرت «الجهات المدنية»، الرباط، الدارالبيضاء وجدة، ثم أضيفت لها سنة 1920 جهة الغرب، إلى جانب «الجهات العسكرية»، فاس، مكناس ومراكش. وفي 1923 أصدر قرارا مقيميا بتاريخ 11 دجنبر لتعديل هذا التقسيم، بإضافة ثلاث جهات ‹للمراقبة المدنية» وهي الجديدة، آسفي والصويرة. ثم خضع هذا التنظيم والتقسيم الترابي لتعديلات أخرى سنوات 1926، 1935 و1940. وبعد حصول البلاد على استقلاها صدرت العديد من الظهائر والقرارات والقوانين المنظمة أو المؤطرة للتقسيم الترابي والإداري. ومنذ ظهير 3 أكتوبر 1956 إلى اليوم لم تتوقف عمليات التحيين والتعديل المهيكلة للتقطيع الترابي للمملكة، بعناوين تتوزع بين العمالات والمقاطعات والأقاليم والولايات والجماعات الحضرية والقروية. ومع الوصول إلى مشروع الجهوية اليوم، المقدم من طرف لجنة مختصة، ضمت في صفوفها الجغرافي والمؤرخ والسيوسيولوجي، يكون من المهم تجاوز الهواجس الأمنية الصرفة في التعاطي مع الموضوع لفائدة مقاربة تنموية ديمقراطية تشاركية. من المفيد أن تكون اللجنة الاستشارية للجهوية قد استشارت مختلف الأجهزة والمنظمات، وانفتحت على تجارب رائدة لدول أخرى. فالنموذج الإيطالي أو البلجيكي أو الاسباني أو البريطاني أو الفرنسي قد يساعد من باب الاستئناس وليس النموذج المثالي أو القالب الجاهز. ومن الأفيد أن يكون الهدف هو تمكين «المغرب من جهوية متقدمة، ديمقراطية الجوهر مكرّسة للتنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا، تكون مدخلا لإصلاح عميق لهياكل الدولة»، كما ورد في ديباجة تقرير هذه اللجنة. لذلك بات تنزيل وتطبيق هذا المشروع، بنفس ديمقراطي تنموي يحترم التنوع الثقافي ويحفظ الكرامة ويعيد الاعتبار للرأسمال البشري، يشكل تحديا ورهانا حقيقيا على المغرب أن يكسبه. فالمرونة في تدبير الأوضاع الخاصة والمعقدة خلال القرن الـ19ضمنت للمغرب وحدته وسيادته على كامل أراضيه، والديمقراطية والتنمية كفيلتان بأن تجعلا هذه الوحدة المحترمة للتعدد، والمنتجة للنماء والتطور خلال القرن الـ21 حقيقة وواقعا، في ظل تنظيم ترابي، «لا مركزي يقوم على الجهوية المتقدمة»، كما جاء في الفصل الأول من دستور 2011.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير