في ربيع ،2002 حلّ المؤرخ الجزائري محمد حربي ضيفا على مركز طارق بن زياد، لتقديم كتابه “حياة لشخص واقف” (بالفرنسية)، وألحّ المرحوم محمد الشرقاوي (زوج المرحومة الأميرة للا مليكة)، أن يقيم عشاء في بيته على شرف محمد حربي، وقبل أن يُمدّ سماط الأكل، قام متحدثا في غضب: «لا أفهم لِمَ عجزنا عن إقامة الوحدة المغاربية؟»، ويعرف الجزائريون المخضرمون لمحمد الشرقاوي أياديه البيضاء لفائدة القياديين الجزائريين إبّان حرب التحرير وبعدها. لا شيء يمكن أن يَخدش في صدق توجهه.. كان محمد حربي يُصيخ السمع باهتمام، حتى إذا انفضّ العشاء، أسرّ محمد حربي لبعض محدثيه، منهم كاتب هذه السطور بما معناه: “لا خيار لكم إلا أن تخدموا بلدكم، ولا تنتظروا شيئا منهم (كذا)”….
كنت حينها أرى محمد حربي مجانبا للصواب، ولكن تبيّن أنه أبعدُ نَظَرا. كنت أصْدُر من منطق الأشياء، (ومنطق الأشياء يتعثر في محيطنا للأسف)، وكان يصدُر من معرفة للأشخاص وبالبنيات… عشرون سنة ونيّف من اللقاء مع هذا المؤرخ الفذ، يكاد حلم الوحدة المغاربية أن يلفظ أنفاسه، أو ينبعث في صورة مشوهة، في لقاءات من غير المغرب، هي دليل على البوار والكساد والعُقم والتيه.
طبعا، السبب الأكبر هو الخلاف المغربي الجزائري، ظاهريا حول قضية الصحراء، إذِ الحقيقةُ أن السبب أعمق من أن يُردّ لقضية الصحراء، والدليل هو أن التوتر ساد بين البلدين قبل سنة .1975 ولو شئنا، في شيء من التبسيط، في خضم التقاطب الإيديولوجي، وظّفت الجزائر الاتحاد الوطني واحتضنت عناصر منه، ثم ارتبطت بعناصر من الجيش في المحاولة الانقلابية الثانية التي قادها أوفقير، ورعت ما سُمّى بحرب العصابات سنة ،1973 وأخيرا وجدت “السمسم“ بفضل فذلكة بعض من “وطنيينا” “الأفذاذ“ّ في شبيبة من الصحراء، لم يراودها قط حلم الانفصال .ما يؤكد هذا التحليل ما يذهب له المهدي بنونة في خاتمة كتابه “أبطال من غير مجد“، أو ما نضح عن القيادي التونسي محمد بنصالح وقد استقبله الرئيس الهواري بومدين بعد فراره من تونس سنة ،1974 وخلع عليه البرنوس، ودعاه للنزهة في حديقة المرادية، خوفا من التنصت وأسرَّ له قائلا: «لن يكون هناك وحدة مغاربية، مادام هؤلاء قائمين»، وأشار بذراعه في اتجاه الغرب. ولأي أن يفهم ما يقصد من ذلك…
الوقوف على العلاقات المغربية الجزائرية، ليس لصب الزيت على النار، أو أن تنكىء الجراح، ولكن للفهم، ولكن الفهم لا يمكن، من وجهتنا كأشخاص يشتغلون على الأفكار، أن يذهب حد التفريط في المصالح الاستراتيجية للمغرب. مستعدون للحوار، نؤمن بالوحدة المغاربية، حقيقة مجتمعية ومشروعا اندماجيا. لا نستطيع أن نهوى إلى الحضيض في أسلوب السب والقذف، والافتراء، من أي جهة كان ذلك… نريد أن نفكر بروِيّة لتبديد الغيوم، وأسوأ من الغيوم الوقوع في المحظور وركوب المغامرة. لا نكذب أنفسنا، أو نُخفي رؤوسنا في الرمال.. نضع في الحسبان جميع السيناريوهات، لا لنسارع لأسوئها، بل لتجنبها..
لا يمكن أن نتفادى سؤالا جوهريا: مَن اغتال الاتحاد المغاربي؟ وإذا كان في كلمة اغتيال إسرافٌ، فمن أصابه في مقتل؟ هل من “مغرب الشعوب“ طرد مزارعين من أراض كانت لهم قبل أن ترسم الحدود، من العرجة غير بعيد عن فكيك، كي يصادف ذلك عيد النصر؟ وهل السيادة على الأرض تتعارض والمِلْكية؟ هل من حلم المغاربي، قطع العلاقات الدبلوماسية، وقطع أنبوب الغاز؟ وهلم جرا من قرارات هي كما يقول التعبير المغاربي (حب وتبن)، من غير تمييز، ولا بعد نظر.
وكما قال المرحوم الحسن الثاني، فالمغرب لن يرحل من حيزه الجغرافي، والجزائر لن ترحل كذلك. ويمكن أن نستشهد مرة أخرى بالمرحوم الحسن الثاني: «المغرب لن يهزم الجزائر، والجزائر لن تهزم المغرب».
نؤمل دوما، أن نخوض سويّا حربا ضد التخلف والعجز والفقر. هي الحرب المشروعة التي نؤمن بها…
وكما قال الشاعر القديم، وهو لسان حالنا:
وهل أنا إلا من غَزيَّةَ إن غوتْ // غوَيْتُ وإنْ ترشدْ غزيةُ أَرْشُدِِ .
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير